الجمعة، 1 أبريل 2011

الحركات الشعبية العربية بين التنظير المتأخر والتطبيق السريع

بسم الله الرحمن الرحيم
قامت منذ أسابيع في أغلب البلاد العربية مظاهرات سلمية، وانتفاضات شعبية، وثورات مسلحة، بشكل مفاجئ، لم يستطع أحد من المحللين أن يتوقع حدوثه.
وقد أكدت هذه الأحداث المفاجئة أن التوقع في مجالات السياسة - كما يمارسه بعض من يعرفون بالمحللين والخبراء - لا يعدو في غالب الأمر أن يكون ضربا من الكهانة، أو نوعا من التخليط المتعمد لأكل أموال الإعلاميين بالباطل.
الفكر المتأخر:
ولكن هذه الأحداث السريعة المتلاحقة، أبرزت شيئا آخر أعظم خطرا، وقد تكون له عواقب وخيمة إن لم يتدارك قبل أن يفوت الأوان، وهو أن هذه الحركة الشعبية العارمة لا يواكبها جهد فكري شامل، يضع لها الإطار العام الذي تتحرك داخله، والوسائل التي تستعملها، والغايات التي تسعى إليها.
وقد يكون هذا مفهوما لأن الجهد الفكري يأخذ وقتا طويلا، ويطبعه من التردد والاختلاف، ما يجعل الحركة العملية غير مستعدة لانتظاره، حتى يحسم أمره في الخيارات المتاحة أمامه. أو كما يقول ديكارت: (أفعال الحياة غالبا ما لا تحتمل الإرجاء)) (.
نعم قد يكون مفهوما، ولكنه على كل حال ليس بالظاهرة الصحية، التي لا تستدعي النقد.
لست أنفي أن توجد فتاوى أو مقالات أو محاضرات متناثرة، تتعرض لبعض المباحث الجزئية بتحليل مختصر، يقارب المشكلات الآنية، دون الغوص وراء حلول الإشكالات الكبرى.
لكنها فوق ما يطبعها من الجزئية والتسطيح المعرفي، تعاني من تشرذم فكري خانق، بسبب التنوع الهائل بين بواعثها الدينية أو الحضارية أو المذهبية.
فيمكننا أن نقول: إن هذه المجهودات المتلعثمة تؤخر هلاك الأمة، وتسكن أوجاعها الحاضرة، ولكنها لا تغني عن الدواء الشافي بإذن الله.
إن خطورة هذا التأخر الفكري تكمن في أن المجال صار مفتوحا الآن أمام الشعوب لتفكر وتعمل من تلقاء نفسها.
والشعب مصطلح فلسفي عائم، غير منفك عن الحمولة السياسية. لكن الأكيد أن حركته – إن لم تكن منضبطة بحواجز فكرية واضحة المعالم – لا يمكن التكهن بمآلاتها، فقد تكون كالنهر القوي الذي لا تخرجه قوته عن مساره الطبيعي، وقد تصبح كالسيل الجارف الذي يأتي في طريقه على الأخضر واليابس.
والشعوب تستطيع – بسهولة فائقة – أن تعبر عن آلامها وآمالها، وتستطيع أن تُشحن - من ذاتها - في معارك مرحلية في مواجهة أعداء، أو لتحقيق مكاسب. ولكنها – بدون تردد - لا تستطيع لوحدها أن تصنع الإطار الحضاري العام الذي يحدد مسؤولياتها، ويوضح حقوقها، ويجعل حركتها عملَ بِناءٍ على أنقاض ما يهدم في طريقها، لا عمل هدم وحسب.
مخاطر في الطريق:
وإذا كان أهل الفكر غائبين أو مغيبين عن هذه التحديات الكبرى التي تخوض الشعوب غمارها، وإذا كانت الشعوب لا تستطيع أن تقوم بواجب أهل الفكر، فما الذي يمكن أن يقع في القريب العاجل؟
أخشى ما أخشاه أن يضطر مفكرونا في خضم هذه الأحداث المتسارعة، ورغبة منهم في لحاق الركب المتفلت منهم في أقرب وقت ممكن، إلى اللجوء إلى الأسهل والأقل كلفة، وهو استنساخ التجارب الغربية السابقة، دون مراعاة الفوارق الجوهرية التي تميز حضارتنا بثوابتها التي لا تقبل النقاش، عن حضارة الغرب التي تضع أغلب المبادئ في خانة المتغيرات.
وهذا الاستنساخ الأعمى لن يؤدي إلا إلى نتيجة واحدة، هي أزمة تبعية للغرب، تخنق أنفاس التحرر من جديد، وتكبت – على المدى البعيد – آمال الانطلاق الوليدة.
وسيكون أعظم مظاهر هذه الأزمة، تكرار بعض المشاهد السابقة، التي ألفناها في أمتنا منذ عقود، وطيلة مرحلة ما بعد الاستقلال، فيكون التغيير في الأسماء دون المسميات.
ومن هذه المشاهد تأجج نار التدافع – مرة أخرى - بين طائفتين وفكرتين:
- طائفة تنادي بالتبعية المطلقة العمياء للنموذج الغربي، لا لشيء إلا لأنها لا تعرف نموذجا غيره، بل لا تتصور إمكان وجود نموذج آخر. وهي فوق ذلك، لا تمتلك العدة المعرفية اللازمة للإبداع المنافي للتقليد.
- وطائفة أخرى ترفض هذه التبعية، لأنها اكتوت بنارها منذ عقود طويلة. وهي طائفة تريد تغيير حالة الجمود والقهر، لكن مع استلهام الموروث الديني والحضاري للأمة. على أنها لم تمارس - لحد الآن – جهدا تنظيريا كافيا، كذاك الذي مارسه من يسمون (فلاسفة التنوير) خلال القرن الثامن عشر، وكان زادا معرفيا جاهزا لتأطير الثورة الفرنسية.

دعوة للاستدراك:
وبعد هذا الرصد للواقع، ولما يمكن أن يتمخض عنه من المخاطر، هل فات الأوان لتدارك ما فات؟ وهل يمكن تلافي هذا الخطر المحدق الذي ألمحتُ إلى بعض معالمه في الفقرة السابقة؟
يمكنني أن أجيب - دون كبير تردد – أنْ لا. لم يفت الأوان، لأن هذه الحركات الشعبية تتسارع في إسقاط بعض الأنظمة المهترئة، ولكنها ستحتاج إلى وقت طويل لإقامة أنظمة بديلة، قادرة على تحقيق المصالح الدينية والدنيوية لشعوبنا.
لقد مر على الثورة الفرنسية مدة طويلة قبل أن تستقر حركتها في دولة آمنة تحقق المبادئ الأولى التي قامت الثورة من أجلها. ولو وقفت هذه الثورة عند احتلال سجن الباستيل، أو حتى عند إعدام لويس السادس عشر، لما كانت شيئا مذكورا. وإنما كانت قوتها كامنة في مقارعة مستمرة بين قوى التحرر وجحافل الماضي المظلم، لنحو قرن من الزمان، حدثت خلاله تراكمات معرفية، وتجارب عملية كثيرة، مكنت من قيام أصول الفكر الغربي المعاصر.
وأنا حين أعقد هذه المقارنة، لست أعتبر الثورة الفرنسية قدوة لنا، ولا نموذجا ينبغي احتذاؤه، فإن الفروق بيننا وبينهم كبيرة جدا، وتمس الجوهر الحضاري. ولكنني أقدم هذا المثال، لأبين أن ما حُقق الآن في بعض الدول العربية في بضعة أسابيع لا يعدو أن يكون تغييرا جزئيا، ذهب فيه نظام فاسد، بانتظار نظام أقل فسادا. أما التغيير الشامل الذي يضمن بآلياته المستقرة، عدم تكرار هذه النماذج السيئة من الأنظمة القهرية، فهو تغيير يحتاج إلى سنوات من المخاض. ولا يمكن أن يتحقق في بضعة أشهر إلا عند الحالمين.
وإذا أضفنا إلى هذا المعطى شيئا جوهريا آخر، وهو أن هذا التغيير ينبغي أن ينطلق من دين يقف كثير من قادة الغرب في وجه انطلاقه، وتحذر ''اللوبيات'' النافذة في الإعلام من تحرره من قمقمه، تبيّن لك صعوبة ما نحن مقبلون عليه فيما يستقبل من الأيام.
ويتأكد هذا أكثر، بكوننا نعيش في عصر انفتاح معرفي وإعلامي لا مثيل له. فلا يمكننا اليوم أن نغلق علينا أبوابنا، لنناقش حاضرنا ومستقبلنا، دون أن يكون معنا في هذا النقاش أجنبي – أو ممثل للأجنبي من بني جلدتنا. وهذا الواقع بعيد جدا عن واقع الثورة الفرنسية، حين كانت المعلومة تنتقل داخل البلد الواحد في أيام أو أسابيع، وبين البلدان المتباعدة في أشهر طويلة.
نعم واقعنا مختلف كثيرا عن واقع الثورة الفرنسية، ولكن الثابت أن الثورات التغييرية الكبرى لا بد أن تستمر وقتا طويلا. وهذا الوقت ينبغي أن يستغل في تدارك ما فات من التنظير المعرفي اللازم لكل حركة بشرية.

مجالات خصبة للبحث:
إن أمام أهل الفكر في الأمة إشكالات كثيرة، وضعتها هذه الحركات الشعبية المتسارعة. ولا يمكنني أن أحيط بعناوينها في هذا المقال. ولكن يمكن القول اختصارا بأن هذه الإشكالات تدور على ثلاثة محاور أساسية، ترتبط فيما بينها ارتباطا وثيقا للغاية:
أولها: تشخيص المرض الذي تعاني منه الأمة، وتوصيف حقيقة الأسباب التي جعلت ركبنا يتأخر عن اللحوق بالأمم الأخرى، مع أن لدينا من الإمكانات المادية والمعنوية ما يؤهلنا للمنافسة على مراتب الريادة في الكون.
أهي مشكلة معرفية شاملة؟ أهي قضية إزاحة الشريعة عن حياة الأفراد والجماعات؟ أهو الانفصام بين التصورات العقدية الموروثة والتحركات العملية المفروضة؟ أهو العامل الخارجي المتمثل في الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية للغرب؟ أهي الأنظمة الاستبدادية الفاسدة؟ أهو رضا الشعوب بأنظمتها الفاسدة لعقود طويلة؟ أهو غير ذلك كله مما لا سبيل إلى إحصائه، أم هو مزيج من ذلك كله، مع نِسَب في التأثير متفاوتة، تحتاج إلى ضبط وبيان؟
والثاني: توصيف الطريقة المثلى للتغيير، من جهة الصلاح والجدوى. أي ما يجوز شرعا من الطرق المقترحة وما لا يجوز، وما يثمر منها في الواقع وما لا يثمر.
وقد بينت الأحداث أن الطريقة التي تنجح في بعض البلدان، لا تؤتي أكلها في بلدان أخرى؛ وأن الثورة السلمية قد تتحول إلى ثورة عنيفة) (؛ وأن الحركة الداخلية قد تستنجد بالدعم الخارجي اضطرارا، إلى غير ذلك مما لا يحصى من الإشكالات التي تتعامل معها الشعوب الآن بمنطق الارتجال، والقرار المرحلي.
والثالث: تحديد الغايات الاستراتيجية التي تريدها الأمة بعد التغيير، لكي تتحد الشعارات، وتأتلف القلوب على مبادئ واضحة المعالم.
وتدخل في هذا المحور أصول عظمى، وقضايا مصيرية، ينبغي الحسم فيها، كقضية الديمقراطية بآلياتها العملية، وحمولتها النظرية؛ وقضية الدولة الدينية والدولة المدنية؛ وقضية تحكيم الشريعة بين الفورية والتدرج؛ وقضية المواطنة والأقليات الدينية؛ وقضايا الحريات وحقوق الإنسان؛ وغير ذلك.

إن المهمة شاقة وطويلة الأمد، ولكنها ضرورة من ضرورات الحياة الأساسية لهذه الأمة، التي تغيب عن وعيها دهورا، ثم تستيقظ في يوم من الأيام، وهي تحمل ما فيه الخلاص والرحمة للعالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق