الاثنين، 25 أكتوبر 2010

دور المرأة المسلمة في الحياة

حدَّثني صاحبي فقال:
"أحبُّ أن أخبرَك عن حادثة وقعتْ لبعض معارفنا، لم أجدْ لها مسوِّغًا في عقلي، ولا قَبولاً في قلبي، ولقد وجدتُ مِن أثرها ضيقًا وكَدرًا، حتى أزمعتُ أن أعرضَها عليك، لعلَّك تُفيدني بشيءٍ من مصادرها ومواردها، فأتسلَّى بتحليل الواقعة عن تحمُّل وقْعِها على النَّفْس".

فقلتُ: "أخبرني بما بدا لك، فإنَّك لستَ أوَّل مَن يَعرض عليّ من غرائب المجتمع ما تطول منه فِكرتي، وتنشغل به مُهجتي".

فقال الرجل:
"هذه امرأة متديِّنة محجَّبة، نعرفها بالخير والالتزام بالشرْع، وهي فوق ذلك أستاذة جامعيَّة، وداعية إلى الله في المساجد والبيوت، ولها من الذريَّة ما تقرُّ به العين".

فبادرتُ قائلاً:
"هذا كله حَسَنٌ طيِّب، فأين الإشكال؟".

فقال:
"الإشكال - يا عزيزي - أنَّ هذه المرأة جاءتْها دعوةٌ للتدريس في بعض البلاد خلال الإجازة الصيفيَّة، فرحلتْ مع زوجها، وتركتِ الأبناء لأنفسهم، وفيهم مَن هو في سنِّ المراهقة، فكأنَّها قدَّمتْ مصلحة عملها خارج البيت على مصلحة عملها داخله".

فقلتُ:
"وهل يستقيم في ذهْنِ مسلمة عاقلة أن تعقِدَ المقارنة أصلاً بين عملها داخل البيت وخارجه، فضلاً عن أن تقدِّم ثاني العملين على أولهما؟!".

هذا ملخَّص الحادثة التي دفعتْني إلى كتابة هذه السطور.

إنَّ المرأة المسلمة تعرَّضتْ في مرحلة ما يُسمَّى: "بالاستعمار" إلى عملية تغريبية طاغية، جعلتْها تخرج قَسْرًا من أخلاقها الإسلامية، وتكتشفُ في كثير من الدهشة - التي سَرعان ما تحوَّلت إلى غبطة - بعض أحوال المرأة الغربية، وظنَّتِ المرأة المسلمة - ومَن وراءها من دُعاة التغريب - أن هذا الذي يأتي من الغرب هو أفضل ما تكون عليه المرأةُ؛ في أخلاقها وطباعها، وعلاقاتها داخل المجتمع.

وسارت المرأة على هذا التغريب ردحًا من الزمن؛ حتى تشكَّلتْ بسبب ذلك أجيال من النساء المنقطعات - كُليًّا أو جُزئيًّا - عن ماضيهنَّ الإسلامي المشْرِق، ولم يكنْ ذلك انقطاعًا في الظواهر والأفعال، وإنَّما عُجِنتْ نفوس النساء من جديد، وحُوِّرَتْ عقولهنَّ وقلوبهن، فتغيَّرت آمالهنَّ وطموحاتهن، وتبدَّل مفهومُهن للحياة، وتصوُّرُهنَّ لدور المرأة في الكون.

فلمَّا جاءت الصحوة الإسلامية تريد الإصلاح ما استطاعتْ إلى ذلك سبيلاً، حاولتْ أن تُرْجِعَ المرأة إلى مواقعها الأصلية، التي في ملازمتها صلاحها وصلاح مجتمعها؛ ونجحتْ - والحق يُقال - في كثيرٍ من ذلك، ولكنَّها لم تتمكَّن من الإصلاح الجَذْري لِمَا استقرَّ في النفوس، وانطوتْ عليه القلوب؛ ولذلك صِرْنا نرى مثل هذه النماذج الكثيرة، لنسوة صالحات ملتزمات بشريعة الله إجمالاً، ولكنهنَّ لا يَمْلكنَ من فقه الأولويَّات ما يُرَجِّحْنَ به مسؤولية بيوتهنَّ، وتكاليف أمومَتِهن، على ما يُسمَّى في حضارة الغرب: "الازدهار الذاتي"، أو "التنمية الشخصية".

فصِرْنا محتاجين إلى إعادة التركيز على كثيرٍ مما كنَّا نظنُّه من البديهيات التي لا نزاعَ فيها عند المتدينين؛ إذ كلامنا ليس عن عوام المسلمين، ولا عن طائفة المتغرِّبين في فِكرهم ووجدانهم، وإنَّما عن الذين يحملون همَّ هذا الدين، ويسعون إلى إحياء ما انْدرسَ من أمجاده، وإعادة تطبيقه في المجتمعات والدول.

لقد وقَعَ في العقود الأخيرة انحرافٌ خطير في مفاهيمنا المتعلقة بدور المرأة في الحياة، وقد بدأ الانحراف حين فتَحَ المتدينون أمام المرأة أبوابَ مشاركة الرجال خارج البيت، وما فَتِئ الشيطان يسوِّل خطوة بعد خطوة؛ حتى فُتِحتْ تلك الأبواب على مِصراعيها، واتَّسعَ الخَرقُ على الراقع.

ولقد كان الدعاة في أول الأمر يركِّزون على أنَّ هذا الخروج لا بُدَّ له من ضوابط ينبغي مراعاتها، وقيود لا بُدَّ من التزامها، لكن ما لبِثَ السيلُ الجارف أن أتى على الأخضر واليابس، فما عاد أحد - إلاَّ القليل - يكترثُ لتلك الضوابط والقيود، وصِرْنا نرى المرأة المتدينة مشارِكة في المجالس النيابيَّة والجماعيَّة، وعاملة في الجمعيَّات الثقافية والاجتماعية، ومحاضرة في الملتقيات والندوات، عدا عملها الذي تكون فيه طبيبة أو مهندسة أو أستاذة أو غير ذلك، مما لا ينضبط ولا ينحصر.

وأين بيتها في هذا كلِّه؟ وما نصيب زوجها وأولادها من هذه الجهود التي لا تَنِي؟!

أفتكون أمهاتُنا وجَدَّاتُنا الأُمِّيات المحافظات على وظيفة رَبَّة البيت أتمَّ المحافظة، أفضل حالاً من نساء العصر المتعلِّمات الملتزمات؟!

إنَّ على المرأة المسلمة أن تَعِي خطورة انجرافها وراء دُعاة التغريب؛ من حيث تدري أو لا تدري؛ وأنْ تفهمَ عظيمَ أَثَرِ انسياقها في تنفيذ المخططات الكَيديَّة التي ما فتئتْ تجتهد لإخراج المرأة من بيتها، وفَصْمِ علائقها بالمهمات التربويَّة العظيمة التي أناطها اللهُ بها.

إن خروجَ المرأة المسلمة من بيتها، وعدم اكتراثها بمهمتها الأصليَّة في الحياة، يؤدِّي - لا محالة - إلى تفسُّخ الأسرة التي هي نواة المجتمع، وإلى نشوء الأطفال - في غياب أُمَّهاتهم - على موائد يقدَّم لهم فيها غذاء فِكري مَسموم من القنوات التلفازيَّة، أو الشبكة العنكبوتيَّة، أو جهالات الخادمات، أو عبث الأصدقاء، أو نحو ذلك مما ضررُه أكبر من نفْعه، أو مما هو ضررٌ كلُّه.

نعم ليست المرأة المسلمة - كما يَدَّعِي علينا دُعاة التغريب - أداة مُجرَّدة للمتعة الجسديَّة في يد الرجل، ولا هي صورة جميلة أو دُمْيَة فاتنة يتباهى بها الزوج أمام عائلته وأقاربه، ولا هي آلة لتفريخ الأولاد وتكثير النَّسْل؛ ولكن ليستْ كذلك ندًّا للرجل، تَسْمُتُ سَمْتَه في كلِّ ما يأتي ويَذَر، وتجاريه في كلِّ مضمار، وتلاحقه في كلِّ مَيدان.

وإذا كانتْ بعض النسوة في زمن النبوَّة قد تاجَرْنَ أو مارَسْنَ الحِسبة أو خَرَجْنَ للجهاد، فما كان ذلك قاعدة مُطردة، ولا مَهيعًا لهنَّ مسلوكًا؛ وإنَّما كان مندرجًا في إطار الحالات الاستثنائية، التي يُتطلَّب لوقوعها الأسباب والدواعي، ولا تكون أصلاً يُستدلُّ به في عموم الأحوال، أمَّا الأصلُ المتَّبَع، فهو ما دلَّ عليه قوله - تعالى -: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾  [الأحزاب: 33]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((المرأةُ عَورَةٌ، فإذا خَرجَت اسْتَشْرَفَها الشيطَان))؛ أخرجه الترمذي، (3/ 476)، وقال: حديث حَسنٌ غريب.

الأسباب والحلول:
يمكنُنا أن نُجْمِلَ أسباب هذه الظاهرة التي صارتْ متفشِّية في صفوف النسوة المتدينات في الأمور الآتية:
أولاً: تأثير الحضارة الغربية الجارفة، والمرأة مَهْمَا كان تديُّنها لا يُمْكنها أن تبقى منعزلة كلَّ الانعزال عن المؤثِّرات الحضارية الآتية مما وراء البحار.

ثانيًا: أَثَر المدرسة وما تتلقَّى فتياتُنا فيها من مبادئ، بل منظومات قِيَمٍ متكاملة، توجِّه تفكيرهنَّ، وتحدِّد معالِمَ شخصيتهنَّ، ولا شَكَّ أنَّ أغلبَ المناهج التعليميَّة في العالَم الإسلامي لا تُراعي خصوصيَّة تعليم الفتاة المسلمة، وتنشئتها على غير ما ينشأ عليه الفتيان.

ثالثًا: تركيز كثيرٍ من الدُّعاة في خطابهم على المواقف الدينيَّة التي يُمكن أن يُسْتَدلَّ بها على المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات، وإغفالهم كثيرًا شَرْحَ دور المرأة المسلمة في بيتها، مع زوجها وأولادها، والغالب أنَّهم يفعلون ذلك حِرصًا منهم على إرضاء الغرب والمتأثرين بمناهجه؛ وذلك لمصلحة نشْر الدعوة في بقاع العالم فيما يَحْسبون.

رابعًا: ضَعف التأطير التربوي للنساء الملتزمات حديثًا، فقد يكتفي المؤطِّرون من أعضاء الجماعات الإسلامية العاملة - في أحايينَ كثيرة - بالتأطير السياسي، وشيءٍ من مبادئ تزكية النفوس، ويغفُلون الجوانبَ الاجتماعية الكبرى، التي ينبني عليها رُقِيُّ المجتمعات الإسلامية أو انحطاطها.

إذا علمتَ هذه الأسباب، فإنَّنا يمكن أن نقترَحَ بعض الحلول العملية، التي تضمنُ بمجموعها الخروج من هذا المأْزِق الاجتماعي الخطير:
فمن الحلول أن يتفطَّنَ المسؤولون على قطاع التربية والتعليم إلى ضرورة إنشاء مجالات تعليميَّة في المدارس، تكون خاصة بالفَتَيات، وهي التي يصطلح عليها بعض الناس بـ(التربية النسوية).

فإنَّ وجود مثل هذه المجالات كفيلٌ بأن يرسِّخ في أذهان فتياتنا معاني التفريق بين الجنسين؛ في الشخصية، والأدوار، والتطلُّعات.

ومن الحلول أيضًا أن يعكفَ الدُّعاة المصلحون في محاضراتهم وكتاباتهم على إحياء المفاهيم الإسلامية في مجال المرأة والأسرة، وإماطة ما غَشِيها من غبار التغريب في العقود الأخيرة.

وللدُّعاة مسؤولية كُبرى في تربية النساء على أهميَّة دورهنَّ داخل البيت، وتربيتهنَّ على أن الطموحَ الحقيقي للمرأة ليس في العمل الخارجي، ولا في المشاركة السياسيَّة، ولا في أنشطة الجمعيَّات، وإنَّما أولاً وأخيرًا في بيتها، مع زوجها وأولادها.

وعلى الدُّعاة أن يكونوا في هذا المجال معتدِّين بأنفسهم في مواجهة المتغرِّبين، فلا يكونوا في موقف الدفاع، ولا يرضوا بأن تُوضَعَ قِيَمُنا في قفص الاتِّهام.

ومن الحلول أخيرًا أن تُقْطَعَ العلائق الخبيثة التي تجرُّ فتياتنا إلى الانبهار بالغرب ومتابعته في كلِّ شيء، وخاصة الأفلام والمسلسلات التي تُظْهِر أنَّ المرأة الصالحة هي التي تعمل خارج بيتها، وتنافِس الرجال في الجليل والحقير؛ وأن رَبَّة البيت هي امرأة تافهة مسكينة، مُعرَّضة لكلِّ أنواع الاستغلال والإذلال.

حفظ الله نساءَنا وفتياتِنا من كلِّ تفسُّخ وانحلال.

الخميس، 14 أكتوبر 2010

إحياء القوة الكامنة في النفوس

(منشور في موقع الألوكة: الرابط)

ما حدود الصَّبر في النَّفس البشريَّة؟ وما المَدَى الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان في تحمُّل الألم، أو الامتناع عن اللَّذَّة المُشْتَهاة، أو ارتقاء مدارج تكميل النفس البشرية؟

لَطالَما لقَّن الآباءُ أبناءهم، والأساتذةُ تلاميذَهم، أنَّ للبشر حدودًا لا يستطيعون تجاوُزَها، وهم في ذلك مُحِقُّون بلا ريب؛ فإن المربِّيَ مطالَب بأن يحمي مَن يُعَلِّمهم مِن غوائل الحماس الفائر، والانبعاث غير المُنضَبِط؛ وهو لذلك يَستعمل كلَّ ما يملكه من الأدوات والوسائل؛ ليكبح جِمَاحهم، وليس يوجد في الموانع والكوابح أقوى من الكابح، الذَّاتي الذي يأخذ بِرَسَنِ النَّفْس، ويمنعها من الانطلاق، على حدِّ قول الشَّاعر في انكفاء النَّفس عن خصوص الخصال القبيحة:

لَنْ تَرْجِعَ الأَنْفُسُ عَنْ غَيِّهَا
مَا لَمْ يَكُنْ مِنْها لَها زَاجِرُ

فَالمُربُّون إذًا يضعون الأَسْوِجة الحافظة، ويَنْفثون في رُوعِ الطِّفل مبادئ الوقاية، وأصول الحماية، فإذا كبِر هؤلاء الأطفال، بقوا - في الغالب - مُحْتمين وراء تلك الضوابط الأصلية، لا يفارقونها إلاَّ لإكراه أو ضرورة، وقلَّ منهم من يَنْزع تلك القيود اختيارًا، ولا يكون ذلك إلاَّ لهِمَّة سامقة تُناطح الجبال، يُسايرها حِداءُ الرغبة، أو مانع الرَّهبة.

هذه الهِمَّة العالية موجودة عند أغلب الناس، لكنَّها في حالة سُبات داخل النَّفْس البشرية، ولا تظهر إلاَّ عند الاضطرار المُلْجِئ:
تكون الأمُّ وديعة حانية، فإذا تعَرَّض وليدها للخطر، تحوَّلَت إلى لَبُؤة شَرِسة، تتحدَّى الصِّعاب، وتركب الأهوال، بلا تردُّد ولا وجل.

ويكون الرَّجل الضعيف هادئًا مُسالمًا، فإذا خُدش في عِرْضه، تفَجَّرت براكين غضبه، وأظهر من الشجاعة وقوة النفس، ما لا يتأتَّى نظيره لقوي الجسد، مفتول العضلات.

ويُوضَع الرجل الذي أَلِف خفْضَ العيش، وطراوة الحياة، في زنزانة مظلمة مُوحِشَة، يقع عليه فيها أصناف من الظُّلم، وألوان من الأذى في نفسه وبدنه، فإذا به يَستخرِج من أعماق مُهْجته من الصبر على الأذى، وتحمُّل المشقة، ما لم يكن يخطر له مِن قَبلُ على بال.

وتكون الشُّعوب راكعة خانعة، فإذا طعَنَها الطُّغاة الجبابرة في أقدس مُقَدَّساتها، الذي به قِوَام حياتها، وبهجة عيشها، انطلَقَت من قُمْقُمِها، كالنَّهر الطَّامي، والسيل الجارف.

الهِمَّة العالية موجودة إذًا داخل النفوس البشرية، متستِّرة تحت ركام من قيود التربية، وضغوط المجتمع، وجُبْن الطبائع.

وهي تَخرج إلى العلن في بعض الحالات الاستثنائية الخاصَّة، ولكن كيف السبيل إلى إخراجها في غير تلك الحالات؟ وكيف يمكن تفجير القُوَّة التي تحملها النَّفس؛ لِتَظهر في أوقات الدَّعَة والطُّمَأنينة، فترفع صاحبها إلى مصافِّ العظماء؟

•        •         •

إنَّ الإيمان كفيلٌ بإخراج هذه القوَّة المستَتِرة.

وأقصد بالإيمان هنا معناه العامَّ، الذي يشمل كلَّ اعتقاد راسخ في قضيَّة سامية، أو مبدأٍ إنساني خالد، ولستُ أحصره في الاعتقاد الإسلامي الصحيح، الذي لا نَجاة في الدنيا والآخرة إلا به.

ودليل هذا التَّعميم، ما رأيناه مِرارًا عَبْرَ التاريخ من انبعاث القوى الخلاَّقة، من جوف عقائد مخالفة للحقِّ الصريح.

ويحضرني من ذلك مثالان، أوَّلهُما في إنشاء الممالك، وقيادة الأمم؛ والثاني في البطولة الفردية، وسمُوِّ الذات:
فأما الأول: فالثائر الماركسيُّ الأرجنتيني "تشي غيفارا"، الذي أمضى حياته متنقِّلاً في بلاد أمريكا الجنوبية وإفريقيا؛ لِنَشْر ما يظنُّه حقًّا، وللدِّفاع عمَّا يعتقده صَوابًا من الأفكار والمبادئ، ولَمَّا انتصرت ثورتُه في كوبا، لم يلبث إلاَّ قليلاً في منصبه الوزاري، حتى انتقل مرَّة أخرى إلى حياة الأَحْراش والغابات؛ لِيُشعل الثورة من جديد، وبقي على تلك الحال إلى أن قُتِل في بعض غابات بوليفيا.
وأمثال الرجل من الثوريِّين ومؤسِّسي الدُّول، لا يأتي عليهم الإحصاء في التاريخ الحديث والقديم.

وأما الثاني: فالطيار العسكريُّ البريطاني "دوجلاس بيدر" (Douglas Bader) الذي فقد رِجْليه معًا في حادثِ طائرة سنة 1931، وكان جميع من حوله ينتظرون موته؛ لِخَطر إصابته، لكنه تشبَّث بالحياة، وشرع يستعمل رجلين اصطناعيتين للمشي، وعلى الرغم من زَعْم الآخرين أنه لن يستطيع المشي بغير عُكَّازتين، فقد تحدَّاهم وأثبت عكس ما قالوه، بل زاد على ذلك بأن تمَكَّن من سياقة السيارة، وممارسة بعض أنواع الرِّياضة.

ولم تمض غيرُ أعوام قليلة، حتى انطلق إلى قيادة الطائرات الحربية من جديد، وشارك في معارك الحَرْب العالمية الثانية، وحَقَّق فيها انتصارات كبيرة، وفي سنة 1941، أُسقطت طائرته، وأسَرَه الألمان بعد أن فقد رجليه الاصطناعيتين، واتَّفقت الدَّولتان المتحاربتان على السماح للبريطانيين بإرسال رِجْلَين أُخْرَيَيْن للطيار الأسير، وقد حاول "دوجلاس" مرَّات متعدِّدة أن يفرَّ من حبسه، ولم يملك الألمان لمنعه من الفرار إلاَّ أن نزعوا منه رجليه مرة أخرى!

وما أكثر الذين يشابهون "دوجلاس" هذا في هِمَّته العالية، وقدرته الخارقة على تحدِّي الصعوبات، وكسر العقبات.

•        •         •

إنَّ آفة الآفات عند شباب اليوم ضَعْفُ المُثُل العليا، وضمور جانب المبادئ التي تُثْمِر المواقفَ، والخواء الرُّوحي الذي يُطغي مطالب الجسد على لذَّات الرُّوح، همُّهم اليوم اتِّباع الشهوات البهيمية، وحاديهم في عيشهم إملاءات (الهرمونات) المشتعلة.

وكل ذلك في الأفراد، يُنْتِج على الصعيد الجماعي مجتمعاتٍ تستشري فيها ثقافة الخوَر والجُبن؛ ودُولاً تشيع فيها الجبريَّة السياسية، والانحراف الفكري، والضياعُ الأخلاقي، وأُمَّةً مهزومة تستمرئ الهزيمة، وتقبل حياة الخنوع.

ولو قارنَّا شباب اليوم بشباب عَشر السِّتين وعَشر السَّبعين[1] من القرن الميلادي العشرين، لاَنْدهشنا؛ للتفاوت الكبير في الاهتمامات الفِكْريَّة، والحماس العمَلِي، فقد كان شُبَّان تلك الأوقات أكثرَ استعدادًا للعمل، وإن كانت العقائد السائدة في تلك الآونة خليطًا من الأباطيل والضَّلالات.

هذا في عموم الشباب، أمَّا في خصوص الشُّبَّان الملتزمين المستقيمين على جادَّة الشرع، فإنَّهم - وإن لم يكونوا متمرِّغين في أوحال اتِّباع الشهوات - ليسوا بمنْأى عن آفات الكسل والميل إلى حياة الخفض والدَّعة، والانكفاء على النفس، وقلَّة الانخراط الفعلي في معالجة هموم الأمة الكبرى، بل هم - في بعض الأحيان - يُعانون من انعدام الأهداف الكبرى التي تَدُور الحياة في فلَكِها.

ولذلك نجد في صفوف المستقيمين مَن يقضي العقْد والعقدَيْن من الزمان وهو يحاول حِفْظ القرآن، فلا يجاوز سُوَرًا معدودة، مع ضعف في الإتقان.

ونجد منهم من يعدُّ نفسه من طلبة العلم الشرعي، وهو - بعد أن تمر عليه سنوات طويلة - لا يزال يُراوح مكانه، متردِّدًا بين المناهج والطُّرق المختلفة للطلب.

ونجد من يدَّعِي السَّير على نَهْج السَّلف في العبادة وهو لا يصبر على أيسر العبادات البدنيَّة[2]، ولا يستطيع أن يواظب على بِضْع ركعات من السَّحَر.

ومنهم مَن ينتسب إلى الدعوة إلى الله، وأكثر أوقاته تضيع في "قيل وقال" على أبواب المساجد، وفي حضور الولائم والأعراس، وفي التنَقُّل بين مواقع الشَّبكة والفضائيات بغير فائدة معتبرة.

ليس كلُّ المستقيمين بهذه الصُّورة التي ذكَرْتُ، ولكن كثيرًا منهم يعيش سبَهْلَلاً، لا يعرف لحياته غاية عُظْمى، ولا يحمل بين ضلوعه هَمًّا من الهموم الكبرى لهذه الأمة.

•        •         •

فإذا ترَكْنا الجانب الفردي، وانتقلنا إلى جانب بَعْث الأُمَّة وإيقاظها من رَقْدتها الطويلة، وجدنا أن أخطر شيء تُعاني منه الأمَّة في زمننا هذا هو الهزيمة النَّفسية الخانقة، التي تجعل ما نحن فيه من التخلُّف الاقتصادي، والتَّبعية السِّياسية، والخضوع العسكري، أمْرًا لازمًا لا سبيل إلى دَفْعه، ولِسانُ حال كثير من الناس في زماننا هذا: "لا يمكننا التغيير ولا الإصلاح؛ فإنَّ العراقيل والعقبات التي تُجابهنا أكبر من أن نستطيع مقاوَمَتها".

ولو رجعنا إلى زمن الحروب الصَّليبية، لوجدنا النَّصارى الصَّليبيين قد احتلُّوا الساحل الشامي كلَّه لمدَّة تقرب من القرنين من الزمان، واحتلوا القدس ودَنَّسوا المسجد الأقصى لبضع وتسعين سنة، ثم اندحروا مهزومين، ورجعوا إلى بلادهم خائبين.

ولكن الفَرق الجوهري بيننا اليومَ وبين المسلمين في ذلك الزمن: أنَّهم آنذاك لم يعترفوا قطُّ بالهزيمة خلال تلك العقود الطويلة، ولا أقرُّوا للغاصبين بشرعيَّة وجودهم على أرض الإسلام، ولا ارتابوا يومًا في أنَّ القدس سترجع لا محالة إلى حكم المسلمين.

أمَّا نحن اليومَ، فقد داهَنَ بعضُ حُكَّامنا بعد سقوط القدس بنحو عقد من الزمان فقط، وتساقط الباقون إلى درك التطبيع والمصالحة بعد عقود قليلة، ولم يبق على عهد الثبات سوى بقية صالحة من أهل الخير من حمَلَة همِّ الإسلام، وما ذلك إلاَّ لِغَلَبة ثقافة الانهزام، ومناهج التخاذل.

وقد سمعتُ مِرارًا بعض السِّياسيين يقولون: إنَّ وجود دولة (إسرائيل) حقيقةٌ واقعة، فنحن نَدْعو إلى بعض المكتسبات الظرفية الصَّغيرة، كقيام دولة للفلسطينيِّين، ولو على قطعة يسيرة من الأرض؛ لأنَّ المطالبة بزوال دولة (إسرائيل) بالكُلِّية أمر مستحيل.

ولما كان القوم ليسوا من أهل الشرعيَّات، ولا هم من الذين يرفعون بكلام الله وكلام رسوله رأسًا، فلن نخاطبهم إلاَّ بكلام مَن يعظِّمون من ساسة الغرب، وقادة أوربا.

ويكفينا قول "نابليون بونابرت" إمبراطور فرنسا، الذي دانت له أوربا كلُّها في بضع سنين: "المُستحيل ملْجَأُ الجُبَناء"[3].

فأمَّا أهل الشجاعة والهمَّة العالية من خيار هذه الأمَّة، فليس عندهم في هذا الميدان مُحال، ما دامت القلوب تنبض بالحماس، وتفور بالعزم الأكيد.

•        •         •

وعودًا على بدء، نقول: نحتاج إلى إحياء هذه الهِمَّة العالية التي تُخالف المألوف، وتهدم قيود الضعف البشري، وإنَّ بأيدينا ما يُمكِّننا من ذلك، لو أننا نستطيع التنَبُّه إليه.

بأيدينا عقيدة سليمة من كلِّ عيب، مبرَّأة من كلِّ نقص، سهلة المأخذ، رائقة الرِّواء، قوية الأثر، حمَلَها منذ خمسة عشر قرنًا قومٌ من العرب، لم يكن في المعمورة أضعف منهم، ففتحوا بها ما بين المشرق والمغرب في سنوات معدودات.

وبأيدينا تشريع مُحْكَم، يحفظ حقوق النَّاس أجمعين، وينظِّم العلائق بين الحُكَّام والمحكومين، وبين الفرد ومجتمعه، وبين الرِّجال والنساء، وبين الصغار والكبار.

وبأيدينا تاريخ مليء بالأمجاد، مُتْرَع بالانتصارات، تتخلَّلها آلاف العِبَر للمعتبرين، والعِظَات للمُتَّعظين، وفي ذاك الخِضَمِّ الحافل مئاتٌ من العلماء والعُبَّاد والمجاهدين والأمراء، ممن يصلح كلُّ واحد منهم أن يكون قدوة لشبابنا وكهولنا وشيوخنا.

فإحياء الهِمَّة العالية يكون بتجديد العقيدة في النُّفوس، وتطبيق الشريعة في الأفراد والمجتمعات، والتعريف بالتاريخ الإسلامي المجيد وأهله الأبطال.


[1] أي: السِّتينيَّات والسبعينيَّات، كما يُقال اليومَ.
[2] يحدِّثني والدي وقد تجاوَزَ الثَّمانين من العمر - أطال الله عُمره في الطَّاعة - أنه يكون في صلاة التَّراويح في رمضان، وهو قائم، وإلى جانبه بعض الشُّبان يُصَلُّون جالسين؛ لغير عُذْر ظاهر، فينتهرهم، وهذا من الظواهر التي تفَشَّت في مساجدنا في هذه السَّنوات الأخيرة، تفَشِّيًا مُقْلقًا.
[3] بالفرنسية: (l'impossible est le refuge des poltrons).

الأحد، 10 أكتوبر 2010

حجابي

حجابي

(أصل هذا المقال قصة واقعية)

(نشرت في موقع الألوكة: الرابط)


كانت تباشيرُ الفجر الجديد تملأ الأُفق ببساطٍ من البياض، يُخالط سُدْفة اللَّيل الراحل، فينعكس على الأرض بغبشٍ من النور، تتبيَّن فيه قسماتُ الوجوه، وتقاطيعُ الأشياء غامضة لا تبوح بمكنوناتها، كأنَّها ورثَتْ من الليل شيئًا مِن كِتمانه، وحديثًا من أسراره.

وكأنَّ نسائِمَ الصباح الأولى تتراقَصُ ثائرةً في كلِّ مكان، مُنطلقة عن كلِّ قيد، تغازِلُ البِنَايات السامقة، وتجمش الأشجار المترنحة، ثم تتسلَّل بين الثياب والأجسام، فتلطِّف من حرارة الصيف الخانقة.

وكانت المدينة تستيقظ من سباتها في بطءِ الكسلان إذ يصحو، ويبقى على فراشه لَقِسَ النَّفْس، ينبعثُ العضو منه تلو الآخر، ويتثاءَب بين كلِّ حركة وأختها، فلا تكتمل يقظتُه إلا بعد دقائق طويلة من المدِّ والجزر؛ بين ضيق الفراش وسَعة الكون مِن حوْله.

كان كلُّ شيءٍ من حول "أسماء" ساكنًا مطمئِنًّا، مُقبلاً في يومه على تَكرار ما كان منه في أَمسه، قد عرَفَ الطريق التي سيسلكها فيما يستقبل من الساعات، وتبيَّنَ صورها، وأبصرَ معالمها.

أما قلبُها هي، فكان مُضطربًا واجفًا، كما لو أنَّ صدرَها صارَ قفصًا لعصفور صغير، لا يفتأ يقفز بين أسوار سِجْنه، يحنُّ إلى الانطلاق والتحرُّر، ولا يجد إلى ذلك سبيلاً.

وكان ذِهنُها الصغير مُزدحمًا بألف سؤال، ويضعُ لكلِّ سؤالٍ ألفَ جواب، ليس في واحد منها بردُ اليقين.

كانت "أسماء" قد ودَّعتْ صاحباتها عبر أسلاك الهاتف على عَجَلٍ، فلم يكنِ السفر مُخطَّطًا له منذ مدة تكفيها في لقائهنَّ ومُجالَستهِنَّ.

ولقد كانت تتمنَّى هذا اللقاء؛ لعلها تقتبسُ من دعابتهنَّ البريئة ما يُنير لها الطريق المظلِم الممتد من أمامها، أو تتنشَّقُ من أريج عبثهنَّ الساذج نفحةً تتضوَّع منها أنحاءُ رُوحها المضطربة.

ولكنَّها اضطرتْ إلى أن تُسرعَ في مخاطبة مَن أَمْكنها منهنَّ قبيل صلاة الصبح بقليل، ثم ارتدتْ ثيابها، وأحكمتْ حجابَها من فوق رأْسها، وخَطَتْ أولى خُطواتها خارج البيت الذي عاشتْ فيه سنواتٍ طويلة من عُمرها.

حملتْ "أسماء" حقيبتها، وأسرعت اللَّحاق بأبيها الذي كان يستحثُّ الجميعَ بكلماته المتلاحقة، وكان قد رسَمَ على شَفَتيه ابتسامةً عريضة، يحاولُ أنْ يُخفي بها ملامحَ القَلَق التي تسرَّبتْ من فؤاده إلى وجْهِه.

لم يكن الأب راضيًا عن هذا السفر المفاجئ الذي فُرِض عليه، ولكنَّه لم يكنْ ليخالف رؤساءَه في مثل هذا، فليسوا هم مَن يتحكَّمون في الاختيار، ولا لهم القُدرة على التغيير أو الإلغاء، وإنَّما عَملُه يَقتضي أن يتنقلَ بين بلاد الأرض، لا يقرُّ له في أحدها قرارٌ، يستقرُّ في البلد أربع سنوات لا غير، فما يشرعُ في معاشرة أهْلها، والاعتياد على حضارتهم وتقاليدهم، حتى يُنقَل على وجْه السرعة إلى بلدٍ آخرَ، فإذا به يستأنف علائقَ جديدة، ومعرفة طارفة.

فما كانت السنوات الأربع التي يقضيها في كلِّ بلد قليلة، بحيث لا يربط بأهْل البلد وشيجةً يُؤلمه قطعُها عند الفراق المحتوم، وما كانت كثيرة، بحيث تحبِّبُ له السآمةُ الانتقالَ، ويُهَوِّن عليه حبُّ التجديد مرارةَ الارتحال، وإنما كان كالشجرة الصغيرة التي تُنقلُ من مَهْدها بعد أن تنغرسَ بعضُ جذورها في الأرض.

كانتْ حياتُه على هذه الحالة منذ سنوات طويلة، ولكنَّ سفرَ اليوم لم يكنْ كالأسفار التي سبقتْه.

أما أولاً، فلأنَّه ما كان يتنقلُ من قبلُ إلاَّ بين البلاد الإسلاميَّة، فإذا اختلفتِ الثقافة، وتنوَّعت التقاليد، اتَّحد الدِّين، فلم يبقَ مِن الخِلاف إلا كما يكون بين الأخ وشقيقه، يجمعُهما كنفُ الأسرة الواحدة.

أما الآن، فهو مُقبل على بلاد أوروبا؛ حيث الفِتنُ والمغْرِيات، وحيث الشهوات والشُّبهات، وحيث .. لا إسلام.

وأما ثانيًا، فلأنَّ بِنتَه "أسماء" التي كانتْ من قبلُ طفلةً لا تَعي من أمور الدنيا غيرَ لعبها ولَهْوها البريء، قد صارت الآن فتاةً في ربيع شبابها، قد نضجتْ آمالُها، واكتملتْ تطلُّعاتها، فكيف يقتلعُ هذا الكيان الغضَّ من جذوره الراسخة في أرض الإسلام؛ ليرميه في أحضان هذه الحضارة العجيبة التي تَفْغَرُ فاها، فتلْتَهم كلَّ ضيفٍ يحلُّ عليها، ثم تَلْفِظه بعد أن تعيدَ عَجْنَه بلُعَابها؟!

أجالتْ "أسماء" بصرَها في المدينة من حولها؛ من خلال زجاج السيَّارة، وشرعتْ تُراجِع بعضَ ما عَلِق بذاكرتها عن هذه المدينة التي شَهِدتْ أُوْلَى خُطواتها في الحياة.

تذكَّرتْ مُدرِّستَها المتلفِّعة بِدثار البراءة والطُّهْر؛ حيث الألعاب البريئة، والدروس الجادَّة المفيدة، والتنافُس المشروع على أرْفَع الدرجات، وحيث الأساتذة الموقَّرون يَفرضون على مَن حولهم جَوًّا من الاحترام والهَيْبة.

تذكَّرتِ المسجد المحاذي لبيْتهم؛ حيث يُرفع - خَمس مرات في اليوم والليلة - ذلك النداء العُلوي الخالد، يصدحُ بتوحيد الخالق وتعظيمه، ويجهرُ بتقرير الرسالة المحمديَّة السَّمْحة، فيخترق عنانَ السماء، وينتشرُ في أنحاء الأرض، ويعمُّ الناس بأَريجه الطاهر.

تذكَّرتْ أرسالَ المصلِّين، وهم يتوجَّهون - في رمضان وفي غيره - إلى ذلك المسجد، يُلبُّون داعي الفلاح في ثَباتٍ وسكينة، تحدوهم لذَّةُ طلب المغفرة، ويجرُّهم البحثُ عن الرضوان، والنعيم المقيم.

تذكَّرتْ دار القرآن التي كانت ترتادُها مرة أو مرتين كلَّ أسبوع، تُلقي على أُذُنَي أستاذتها البشوش الحازمة ما أَوْكَتْ عليه صدرَها من آيات الفرقان، فتصحِّح لها ما أخطأتْ فيه، وتشجعُها على المثابَرة على الطريق، وحثِّ الخُطى في السير عليها، وتبشرُها بما ينتظرها عند الوصول المرقوب.

وتذكرتْ أصوات التاليات ترتفعُ من الحناجر الغضَّة، فتترعُ فضاء الدار بسِحْرٍ مِن عَبقها الفوَّاح.

تذكرتْ جيرانَها وهم يتشاورون في مصالح الحي، ويتجاذبون أطرافَ الحديث فيما يَجِدُّ من أمور البيوت وأهلها، فإذا أُخبروا بواحدٍ منهم وقَعَ في حاجة، أو انْشَغَلَ بموت قريبٍ له، أو وليمة زواج أو نسيكة ولدٍ، إذا بهم يتسابقون إلى العَطاء، وينضُّون بالبذل بقلوبٍ مرتاحة، ووجوه مستبشرة، لا يعيش الواحد منهم إلا من حيث هو عضو في جماعة حَيِّه، يشاركها أفراحَها وأتراحَها؛ ولا يستسيغ الواحد منهم أن يغلقَ عليه بابَ داره، ويصمَّ أُذنَه عمَّا يَهْتَمُّ له جارُه وينصَبُ.

تذكرتْ عائلتَها الكبيرة، حين تجتمع أيام الأعياد والعُطَل، تختلطُ فيها ابتساماتُ جيل الجدود بحوارات جيل الآباء، بألعاب جيل الأحفاد، يوقِّر الصغيرُ الكبير، ويحدبُ الكبيرُ على الصغير.

وتذكرتْ صاحباتها، آه من ذِكْرى صاحباتها، وآه من فِراق صاحباتها!

مسحتْ "أسماء" خلسة دمعة جادتْ بها عينُها، وقد أخفتْ نصف وجْهها في مُحاذاة نافذة السيَّارة، فتكوَّنتْ من أنفاسها الحرَّى فوق الزجاج الصقيل طبقةٌ حجبتْ عنها الرؤية، كما تحجِبُ الغيومُ زُرقة السماء، وكما يسترُ الغموضُ الكثيفُ سحنةَ المستقبل الآتي.

أأتركُ هذا كلَّه؟ أتسمحُ نفسي بالعيش بعيدًا عن وطني وأحبابي؟ ألن ينفطرَ قلبي حين يَفقدُ أسبابَ بقائه؟ ألن يضيع فِكري بين خَيَالات الماضي، وآلام الواقع؟ ألن ...؟
وتقفز "أسماء" مِن مقعدها، حين ينتزعُها صوتُ أبيها القادم من بعيد من أفكارها:
ها قد وصلْنا إلى المطار.

وانشغلتْ "أسماء" عن أفكارها السوداء، وحُزنها الممض بإجراءات الدخول وتفصيلات الركوب.

لكن ما أنْ أقلعتِ الطائرة نحو وِجْهتها البعيدة، حتى شعرتْ أسماء بقلبها يُنتزعُ من صدْرها، كما انْتُزعتْ عجلات الطائرة من فوق أرض الوطن، وهو يخفقُ خَفقان العصفور الجريح الواقع في فخِّ الصياد.

وألقتْ أسماء نظرةَ وداعٍ من النافذة على وطنها المتنائي، وأحسَّت بحُبِّه يكبرُ في قلبها بمقدار ما كان حَجْمه يتضاءَلُ في عَينها، وهي تبتعد عنه.

نزلت الطائرة بعد نحو الساعتين من الزمان، هي كلُّ ما يفصِلُ بين إفريقيا وأوروبا، وبين حضارة الشرق وحضارة الغرب، وتأخَّرت أسماء قليلاً، حتى لم يبقَ من الرُّكَّاب غيرها، وظلَّتْ مُتشبِّثَة بالطائرة، كما يتشبَّثُ الغريقُ بطوق النجاة، إلى أنِ افْتقدَها أبوها فرجعَ إليها؛ لينتزعَها من آخر مكان - تشعرُ بارتباطها العاطفي به - كما تُقتَطفُ الوردة من حِضْن الثرى، فهل يبقى لها غيرُ الذبول؟! وكانتْ لحظة الولوج إلى المطار كالبرزخ الزمني بين حال وحال.

كلُّ شيء تغيَّر؛ الوجوه غير الوجوه، وكلامُ الناس غير الكلام، وحركاتهم غير الحركات، حتى الطقس يستثيرُ أحاسيسَ الغُرْبة من مكامنها!

ودخلتْ أسماء في دوَّامة من الأحداث المتسارعة، لم تتركْ لها مجالاً للتفكير، ولا لخيالها مجالاً للانطلاق، كانت الصوَر تمرُّ أمامَ عينَيها متلاحِقة، كما تمرُّ صوَر السينما أمام مشاهدها؛ ابتسامة باردة على وجهٍ حازم هنا، وامرأة نصف عارية تعانقُ صديقًا لها هناك، جماعة من الشُّبان العابثين بأثواب مُزرْكشة غريبة، يتمايلون على أنغام الموسيقا التي تخترقُ آذانَهم، رجل جالس في قاعة الانتظار وعلى رُكْبتيه حاسوب محمولٌ قد انشغلَ بالنظر فيه عن الدنيا كلِّها، شاب بسترة داكنة يحثُّ الخُطى نحو الباب وهو مشغول بمكالمته الهاتفيَّة عن الكون من حوله.

أحسَّتْ أسماء بالدوار، فأغلقتْ عَينيها، واستسلمتْ لهذه البيئة الجديدة التي اكتنفتْها مِن كلِّ جانب، وأطلقتِ العنان لآمالها؛ لعلَّها تخفِّفُ عنها شيئًا من وطْأَة القَلَق الذي يساورها.

لم تلبثْ أسماء إلاَّ أيَّامًا قلائلَ، حتى جاء موعد الدخول المدرسي، كانت تعلمُ حقَّ العِلم أنَّ أخطرَ ما سيواجهها من التحدِّيَات في حياتها الجديدة سيكون في المدرسة.

كانتْ تنتظرُ مشكلاتٍ في مناهج الدراسة ومُقَرَّراتها، أو في التعامُل مع الأساتذة الأوروبيين، وكانتْ تَخْشى ألاَّ تجدَ لها بين زميلات الدراسة صديقةً توافقُها في طباعها وطريقة تفكيرها.

كانتْ تتوقَّع أشياءَ كثيرة من السوء بمكان، ولكنَّ شيئًا واحدًا لم تتوقَّعه، ولا خَطَر ببالها قطُّ.

دخلت المدرسة إلى جانب أبيها، تكادُ تحتمي بشخصه من النظرات العابرة، التي تجزمُ في باطن نفسها بأنها تلاحقُها، وتوجَّها معًا إلى الإدارة؛ لتكميل إجراءات التسجيل.

كانت المديرة غارقة في كُرْسِيِّها الوثير، وأمامها كومة من الأوراق المتناثرة، وما أنْ دخلتْ أسماء وأبوها، حتى رفعتْ إليهما عينين باردتين، فارغتين من كلِّ إحساس، وألقتْ عليهما تحيَّة أبردَ وأفرغ، كأنَّها كانتْ قد استعدَّتْ للقائهما بقراءة ما في ملف التلميذة من المعلومات.

وبعد كلمات مُجاملة مُقْتضبة طلبت المديرة من أسماء أنْ تُغادرَ المكتب، وتنتظرُ أباها في القاعة المجاورة؛ لأنَّ لَدَيْها ما تناقشُ والدها فيه، وخرجتْ أسماء، واستسلمتْ من جديد لهواجسها التي لا تُطاق.

مرَّت ساعة قبل أن يخرجَ الأب من غُرفة المديرة؛ شاحب السحنة، مُمتقع اللّون؛ كأنَّ رُوحه قد اختُطِفتْ مِن جَسَده، وبَقِي منها شيءٌ يسيرٌ تتحرَّك به أطرافُه، وأسرع نحو الباب وأسماء تلحقُ به.

وما أن دَلَفا إلى السيارة، حتى ألْقَى إليها الخبرَ المفجِعَ:
أسماء، أخبرتني المديرة أنَّ عندهم قانونًا يلزمُنا، أقصد: يلزمُكِ.

ورفعتْ أسماء عينيها إلى أبيها في تُؤَدَة، فالتقتْ عيناهما، ووجَدَ الأب الفرصة سانحة ليُلقي كلماته في ألْطَفِ ما يقدر عليه من التعبيرات، وبأرقِّ ما لَدَيه من الحنان:

أسماء، عليكِ أنْ تخلعي حجابَك إنْ شئتِ الالتحاق بالمدرسة.

نزَلَ الخبرُ على رأس أسماء كما تنزلُ المطرقة الحديديَّة الضخْمة، فلا تتركُ من ورائها غير الدمارَ في المشاعر، والشتاتَ في الأفكار، والغصَّة في الحَلْق.

واستدارتْ مرَّة أخرى إلى زجاج النافذة تتأمَّل الكونَ من ورائه، وسكتتْ وسكتَ أبوها، فليس عنده من الكلام ما يُفيدُ، بل ما بَقِي للكلام مجالٌ أصْلاً.

كان الليل ساكنًا؛ فيه وحْشَة القبور، وضيق اليأْس، وقُبْحُ الظلم.

كانتْ أسماء تتقلَّب على فراشها، ولا تكتحلُ عيناها بنومٍ، تناجي نفْسَها بصوتٍ مسموع تارة، وتُخْفِي هواجسَها في نفْسِها تارة أخرى، ثم إذا ضاقتْ عليها منافذُ الأمل، توجَّهتْ إلى ربِّها بالدعاء.

ما أقدرَ هذا الذهنَ الصغير على تحمُّل هذا القرارِ الكبير!

وهل هي تملك القرارَ أصْلاً؟ أليس القرار مُعَدًّا من قبل، أعدَّه أساطين الحريَّة الشخصيَّة، وأربابُ المنافحة عن حقوق الإنسان؟!
أُفٍّ لكم ولحريَّتكم التي تقِفُ عند حدود شُقر الرؤوس، وزُرق العيون، ولا تتجاوزها إلى الذين تعدُّونهم بالكلام بشرًا مثلكم، وبالفعل حشراتٍ مُؤذية تتنافسون في سَحْقها!

أفٍّ لشعاراتكم الجوفاء عن حقوق الإنسان، ألا ليتكم توضِّحونها بقيدٍ يصرفُ الجُهلاء من بني جِلْدتنا عن الاغترار بها! ليْتَكم تقولون: حقوق الإنسان الغربي أو الأوروبي، أو ما شِئتم من القيود!

أليس من حقِّي - في أعرافكم ودساتيركم - أنْ ألْبَسَ ما أشاء من الثياب، وأُنْشِئ ما يحلو لي من التصرُّفات؟!
ألستم تزعمون أنَّ للفرد حريَّته التامَّة؛ في مُعتقده وفِكره، وتعبيره وهَيْئته، ولباسه وأكْله وشُرْبه، ما دامتْ حُريَّته لا تتعارضُ مع حريَّة الآخرين؟! وهل حجابي الذي أضعه على رأْسي يعارضُ حريَّة زملائي أو أساتذتي في الدَّرْس؟!
أنتم تقبلون في مجتمعكم العاهرة التي تبيع عفافَها لكلِّ ذئبٍ بشري، وتقبلون الراقصة العارية التي لا تردُّ يدَ لامسٍ، وتقبلون الممثِّلة في الأشْرطة الداعرة البهيميَّة - ولتعذرني البهائم - ثم لا تقبلون فتاةً تضعُ على رأْسها حِجابًا؟!

في مجتمعاتكم شبابٌ متعصِّبون، يحلقون رؤوسَهم، ويَشِمون على سواعدهم صليبَ النازيَّة المعقوف، ويُثنون على زعماء الفاشية الذين قُتِل بسبب حماقاتهم ملايين الأوروبيين، ومع ذلك لم تتحرَّكْ حكوماتكم لسنِّ القوانين، وتجريم هذه الأعمال، أضاقتْ عقولُكم وقلوبُكم عن تقبُّل فتياتٍ مُهذَّباتٍ مُحجباتٍ، ليس في هيئتهنَّ عليكم من ضررٍ؟! ولكن، لِمَ ألومُكم؟!

ليس الخطأ منكم، ولا العتب عليكم، ومتى عوتِبَ الذئبُ على قرمه إلى لحوم النعاج؟! أم متى لِيمَتِ السباع على افتراسِها ضعافَ الأنعام؟!
وهل أنتم إلا عدوٌّ من الأعداء، كشَّر عن أنيابه منذ زمان بعيد، وأظْهَرَ لُؤْمَه وعَدَاوته كلَّما تمكَّن من ذلك؟! ومتى كان الذي بين الأعداء عتابًا وعذلاً؟!
أنا ألومُ بعضَ حُكَّام المسلمين الذين يضطهدون المحجَّبات في بُلدانهم، فيكونون للأوروبيين قدوةً في الشرِّ.

وألومُ المفكِّرين المنتسبين للإسلام، حين يهوِّنون من شأْنِ الحجاب، كأنَّه ليس من شريعة الله.

وألوم المجتمعات الإسلاميَّة التي تتهالكُ على حضارة الغرب، وثقافة الغرب، وكلِّ ما يأتي من الغرب، حتى صِرْنا محتاجين إلى الغرب في كلِّ ما نُبْقي وما نَذر، وصار الغرب عنَّا في غنًى.

وألوم الآباءَ الذين يُرسلون أبناءَهم إلى بلاد الكفر، فيَسلم القليلُ منهم بعد سنوات من المجاهدة والمدافَعة، ويضيع الأكثرون في مَهَامه الفِسْق، وفيافي الشبهات، فإذا مرَّت السنوات صِرْتَ ترى الرجل المقيم هناك ليس فيه من الإسلام غيرُ الاسم والعنوان، وشيءٌ من التقاليد البالية التي حَزَمها مع أمْتعته حين قَدِم إلى هذه البلاد، وهو يحسبُها من الإسلام، أو يظنُّها الإسلام كلَّه!

ألومُ الآباء حين يصمُّون آذانَهم عن صَرَخات المستضعَفَين من المسلمين الذين يُفتنون في دينهم صباحَ مساء، ولا يَملكون لردِّ العُدوان عنهم حِيلة، ولا يهتدون سبيلاً.

فإذا بهم يحتجون بمن سَلِم من الفتنة، ونجا بدينه، وهم الأقلُّ، ويغمضون أعينهم عن رؤية الهالكين، وهم الأكثر!

وما بهؤلاء الآباء إلاَّ الانبهار بالغرب وثقافته؛ حتى إنَّ كثيرين منهم يُرسلون أبناءَهم للدراسة في تخصُّصات مشهورة، يوجدُ نظائرُها في بلاد الإسلام!

ولو أنَّ الآباء - وهم مُؤتَمنون على أولادهم - عَلِموا أنَّ في مكان ما وباءً يَستشري، أو مَرَضًا ينتشر، لَمَا دَفَعوا بفلذات أكبادهم إلى ذلك الأتُّون المستعر؛ مَخافة أن يلتهمَ صحة أبدانهم، فكيف يهون عليهم أن يُرسلوهم إلى بلاد الغرب، وهم يعلمون أنها تأكلُ أديانَهم، وتُمْرِض قلوبَهم، وتُسَمِّم أفكارَهم؟!
صَدَق رسولُ الله حين تبرَّأ من الذي يقيمُ بين المشركين، وهل تكون إقامة اختياريَّة إلاَّ بمودَّة وإخاء، وبنقضٍ لعُرَى الوَلاء والبَرَاء؟! وهل تكون إلا بتنازُلٍ عن شيءٍ من الدِّين؛ صَغُرَ أو كَبُرَ، وليس في الدِّين صغيرٌ؟!
باتتْ أسماء ليْلَتَها بشرِّ حال، ولَمَّا أضاءَ الكون بشمسِ الصباح الوديعة، كان قلبُها لا يزال في ظُلمة كئيبة.

ذهبتْ بصُحبة والدها إلى المدرسة، وبعد أنْ نزلتْ مِن السيارة، وودَّعتْ والدها بكلمة آلية فارغة من كلِّ شعور، تسلَّلتْ في بطءٍ إلى باب المدرسة.

وهناك على الباب مدَّتْ يدَها اليُمْنى إلى عروة حجابها لتفتحَها، ويدُها اليُسرى إلى خَدِّها؛ لتمسحَ دمعة مهراقة، وضجيج التلاميذ يقرع الأسماع.