الخميس، 7 يوليو 2011

فجر العدل قادم


الظلمُ فينا لا تعدُّ جَرائمُهْ = والقتلُ فينا لا تُفلُّ صوارمُه
أَلِفَ الرَّدى أرواحَنا وجسومَنا = فبغيرِنا ليستْ تقومُ ملاحمُه
يتقصَّدُ الأخيارَ منَّا غيلةً = ليستْ تُردُّ إلى الرخيصِ عزائمُهْ
أسماؤهمْ رُسمتْ بحِبرٍ مِن دمائهمُ، تَشقُّ بها السماءَ قوائمُهْ
يختالُ فوقَ دمائهمْ مرحًا، وَغَايةُ جهدنا أنا نبيتُ نلاوِمُه !
نشكو بألفاظِ الهوانِ جميعِها = حتى اشتكتْ ألفاظُه ومعاجِمُهْ
ونسير في الدنيا بمظهر عابثٍ = وتسيلُ من دمعِ العيونِ سواجِمُهْ
لكنَّ فجر العدلِ لاح بريقُهُ = والحقُّ هبَّتْ في البلادِ نسائمُه
ينمو على أرضِ المظالمِ، كالخزامى إذْ تُفَتَّحُ في الترابِ براعِمُهْ
ويصيحُ فينا: يُذبَحُ المظلومُ – يا = قومي – ولكنْ لا يُخَلَّدُ ظالِمُهْ !

الأربعاء، 8 يونيو 2011

دروس من حياة المعتمد بن عباد

قَدْ كَانَ دَهْرُكَ إِنْ تَأْمُرهُ مُمْتَثِلاً
فَرَدَّكَ الدَّهْرُ مَنْهِيًّا وَمَأْمُورَا [1]



بِهذا البيتِ يخاطب المعتمدُ بنُ عباد نفسَه، فيلخص سيرتَه الذاتية أيامَ ملكِه وجبروتِه بالأندلس، وأيام ذلِّه وهوانه بـ"أغمات" بضاحية "مراكش"، وذلك في قصيدتِه الرَّائية المشهورة، التي تغنَّيْنا بها صغارًا، ورثينا لحال ناظمها؛ لأنَّه ما ترك سبيلاً لاستدرار الدَّمع من عين قارئ أبياته إلا سلكَه.



ونحن إذْ كنَّا نحزن لأحزانِ الرجل، ونألم لآلامه التي بثَّها في كلِّ لفظ من ألفاظِه، ونستحضر أمامَنا صورَ بناتِه الأميرات اللواتي تبدَّل بهنَّ الحالُ، فصرْنَ يغزِلْنَ للنَّاس بالأجرة - لم يكن يخطر ببالنا إلا هذا الجانب الأوحد من الصُّورةِ التاريخية المركبة، وكان يكفينا أنْ نختزلَ حياةَ المعتمد في قصةِ ملكٍ أديب شاعر، غدر به ملكٌ همجي ظالم، فساقه من حياة الرَّفاهيةِ والمجد إلى عيش الفقر والهوان، ولم نكن نحسب أنَّ من وراء ذلك جوانبَ أخرى تحتاج إلى تأمُّل، قد يفضي إلى صورةٍ أخرى غير التي توحي بها ظواهرُ كتب الأدب.



والحقُّ أنَّ المعتمدَ بن عباد قد اجتمع فيه - في كفتي الخير والشَّر - متناقضاتٌ عجيبة، ترفعُ الرجلَ في بعض إشراقاتِه إلى أعلى مدارج العظمة، وتنحطُّ به في بعضِ مواقفِه إلى أخسِّ دركات البشرية المغرقة في اتصالِها الأرضي، المنبتَّة عن وحي السَّماء.



أمَّا في كفةِ الخير؛ فقد كان المعتمدُ بن عباد ملكًا شجاعًا، وفارسًا مغوارًا، عرفته ميادينُ الكفاح، وألفته ساحاتُ الجهاد، وقد أظهر في معركةِ الزلاقة من البلاءِ الحسن، وصدقِ العزيمة في الحرب، وشدة الصَّبرِ على مكاره الهيجاء ما حفظه له التاريخُ، وأثنى به عليه رواتُه الصَّادقون.



وله في كفةِ الخير أيضًا موقفٌ ناصعٌ، لا يتأتَّى مثلُه إلا لأهل التدين الصَّادقِ، والحمية الإسلامية الرَّاسخة؛ وذلك أنَّ "ملوك الطَّوائف" حين تهدَّدهم طاغيةُ الإفرنج، وأوشك على قصد بلادِهم لاستئصال شأفتِهم - أرسل المعتمدُ إلى أمير "العدوة" المغربية "يوسف بن تاشفين"، يستنصره ويتقوَّى به، وحين عذله بعضُ المفتونين، وخوَّفوه ضياعَ ملكِه، وذهاب سلطانه، قال كلمته السائرة التي بقيت تتحدَّى النسيان، وتطاول الإهمال، يتناقلها أهلُ التواريخ، وينشأ على حلاوتِها شُداة الأدب الخالد: "رعيُ الجمالِ خيرٌ من رعي الخنازير"[2].



وله بعد ذلك كلِّه، وقبل ذلك أيضًا شيءٌ يشفع له عند أهل الأدب خصوصًا، وعند كلِّ ذي ذوقٍ فني، يحب الظرف، ويعشق الخيال، ويحسن تقدير المعنى النَّبيل، واللفظ الجميل، نعم، كان المعتمدُ شاعرًا فحلاً، أندلسيَّ الطَّبع، رقيقَ الدِّيباجة، سريع البديهة، ظريفًا محببًا، وكثيرٌ من النَّاس يهوون الأدبَ - وإن لم يكونوا في أنفسِهم أدباء - ويحترمون أهلَ الأدب وينظرون بعينِ الصَّفح إلى نقائصِهم، ويقبلون من عيوبِ أهل الفصاحةِ واللسن، ما لا يقبلون مِعْشارَه من أهل الفهاهة والعيِّ.



أما في كفةِ الشر، فقد اجتمع على المعتمدِ مواقفُ مظلمة، تنزلُ بالرجل إلى حضيضٍ يجامعُه فيه أهلُ الاستبداد والترف، والمتشبِّعون بالفكرِ السِّياسي المكيافيلي.



فمن تلك المواقف ما وقعَ له مع ابنِ جهور، وملَّخصُ القصةِ كما في كتاب "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة (2/610)": أنَّ أميرَ قرطبة عبدالملك بن جهور احتاجَ إلى الاستعانةِ بالمعتمد بن عباد ليدفعَ عنها مَنْ أغارَ عليها، فجاءتْ جيوشُ المعتمد ورابطَتْ بظاهر قرطبة، "وأقاموا بها أيامًا يحمون حماها، وأعينهم تزدحم عليه، ويذبُّون عن جناها، وأفواههم تتحلبُ إليه"، كما يقولُ الشنتريني، لما انصرفَ العدوُّ عن قرطبة، لم يرع ابن جهور إلا عساكر المعتمد تغدرُ به، بعد أن كانت حليفةً له، مظهرةً ودَّه، فاحتلُّوا بلادَه، وقبضوا عليه وعلى إخوتِه وأهلِ بيته، أذلاء منتهكي الحرمة.



وحفظ التاريخُ أنَّ ابن جهور لما وصل إلى وسطِ قنطرة قرطبة خارجًا منها، رفع يديه إلى السَّماءِ وقال: "اللهمَّ كما أجبتَ الدُّعاءَ علينا فأجبْه لنا"، فمضى الزَّمانُ، ودارت على المعتمدِ وأهلِه الدوائرُ، وإذا به يلقى من الذُّلِّ في سجنِ ابن تاشفين، نظير الذي لقيه ابن جهور في سجنِه.



ومن ذلك أيضًا ما حدث له مع وزيرِه أبي بكر محمد بن عمار المهري، الذي كان صفيَّه وخليلَه، ثم وقع منه ما وقع، فسجنَه ولم يرق لاستعطافِه، ثم ذبحه صبرًا فيما ينقل المؤرِّخون[3]، وما أشبَه هذا بأساليبِ عتاةِ المستبدِّين من الملوك والسَّلاطين، وما أبعدَه عن صورةِ الأديب الذي ينضحُ شعرُه بالظرفِ، ويكاد يسيل من الرِّقة!



ومن ذلك أيضًا قصتُه مع الرميكية.

والرميكية هذه جاريةٌ شغف بها المعتمدُ، فهتك من أجلِها أستارَ محاسنِ الأخلاق التي يتحلَّى بها أهلُ الحزم من الملوك، وأرباب العزائم من الرِّجالِ.



يقول المقري في النفح[4]: "وقد رُوي أنَّها رأت ذات يوم بإشبيلية نساءَ البادية يبعنَ اللبنَ في القِرَب، وهنَّ رافعات عن سوقهنَّ في الطِّين، فقالت له: أشتهي أن أفعلَ أنا وجواريَّ مثل هؤلاء النِّساء، فأمر المعتمدُ بالعنبرِ والمسك والكافور وماء الورد، وصير الجميعُ طينًا في القصرِ، وجعل لها قِرَبًا وحبالاً من إبريسم، وخرجت هي وجواريها تخوضُ في ذلك الطين، فيقال إنَّه لما خُلِع وكانت تتكلَّمُ معه مرةً فجرى بينهما ما يجري بين الزَّوجين فقالت له: واللهِ ما رأيتُ منك خيرًا[5]، فقال لها: ولا يوم الطِّين؟! تذكيرًا لها بهذا اليومِ الذي أباد فيه من الأموالِ ما لا يعلمُه إلا اللهُ - تعالى - فاستحْيَت وسكتت".



ومن ذلك - وهو أخطرُ هذه المواقف وأحلكها، لما له من التعلُّقِ بالتَّوحيد - أنَّ المعتمدَ لم يتردَّدْ في الاستغاثةِ بالفنش طاغيةِ الفرنجة، ليردَّ حصار ابن تاشفين عن مدينتِه، يقول ابنُ خلدون[6]: "واستنجد الطَّاغية فعمدَ إلى استنقاذِه من هذا الحصارِ فلم يغنِ عنه شيئًا، وكان دفاع لمتونة مما فتَّ في عضدِه، واقتحم المرابطون إشبيليةَ عليه عنوةً سنة أربع وثمانين، وتقبض على المعتمد وقاده أسيرًا إلى مراكش".



ولذلك فقد استفتى أمير المسلمين يوسف ابن تاشفين الفقهاءَ في هذه الواقعة، فأفتى أكثرُهم بأنَّها ردة، لكنَّ قاضيه - وبعضَ الفقهاء - لم يرها ردةً ولم يبحْ دمَه[7].



وما أعظم البَوْن بين الحادثةِ الأولى التي استنكف فيها المعتمدُ أن يستعينَ بالإفرنج، وفضَّلَ على ذلك الارتماءَ في أحضان المرابطين المسلمين، وبين ما آل إليه أمرُه في هذه الحادثة المحزنة!





وبعدُ فما لنا وللمعتمد بن عباد؟ وفي أيِّ شيء يهمنا المعتمد وما فعله المعتمد، وقد أفضى الرَّجلُ إلى ما قدَّم منذ قرون عديدة؟ وإلى متى نبقى ندوك في سيرتِه وهو الآن بين يدي ربٍّ حكيم عادل، يحاسبُ بالقسط، ولا يُظلمُ عنده أحد؟



الحقُّ أنه لا يهمنا المعتمد، ولا سيرة المعتمد، إلا بمقدارِ ما نستخلصُ من ذلك دروسًا تكون حاديًا لقارئها في سلوكِه الحثيث إلى الله، وعبرًا تكون زادًا لمتدبرها في سعيه إلى معالي الأمور، وبعده عن سفسافها.



وقد تأملتُ فيما سبق بيانُه من المواقف، فاستخلصتُ بعضَ الدُّروس، ولستُ أزعم الحصرَ ولا الاستقصاء، ولكن هذا الذي ظهرَ لي بادي الرَّأي، ولن تعدم حياةُ هذا الرَّجلِ المضطربة بالأحداثِ الجسام، والمتموجة بالفتن العِظام، مَنْ يستخرجُ منها غيرَ هذه العبر.



الدرس الأول:

مرتعُ الظلم وخيم، وعاقبتُه أشدُّ مرارة من الصاب والعلقم، وبينما الظَّالِمُ في غفلتِه مسرورًا بما اقترفتْ يداه، مطمئنًّا إلى دنياه المليئة بالمسراتِ والأفراح - إذا بعادياتِ الأيام تنتزعُه من أوهامه، وتفسدُ عليه زينةَ أيامه، وإذا بالسُّرورِ ينقلبُ حزنًا وكآبة، والسعادةُ شقاءً، والرِّفعةُ ضعةً وذلاًّ، وضياءُ الشَّمسِ حندسًا رهيبًا.



ومن لم يرَ عاقبةَ ظلمِه في الدُّنيا، فإنَّه يراها في الآخرةِ أعظمَ وأنكى؛ فيتمنَّى من هولِ ما يرى هناك أنْ لو عُجِّلتْ له العقوبةُ في هذه الدُّنيا الفانية؛ يفنى نعيمُها كما يفنى عذابُها.



فليحذرِ الظَّلمةُ وأعوانُهم، ومن يرقِّعُ ما انفَتَقَ من سِيَرِهم، ويصلحُ ما تهلهلَ من مواقفِهم؛ بالبيانِ الإعلامي تارة، وبالفتوى الفاجرة تارةً أخرى.



فليحذروا أجمعين، فإنَّ حالَ المعتمد لم يدُم له على خير ما كان يتمنَّاه، وإنَّ نظراءَ المعتمد - بل الذين فاقوه عتوًّا واستكبارًا، وكثرةَ أنصارٍ وأعوان - لم يلبثوا أنْ وجدوا - في يومٍ من أيام الدَّهرِ الجارفة - قصورَ الوهمِ تتساقطُ من حولهم، فكأنها ما كانت، وكأنهم ما كانوا.



الدرس الثاني:

إنَّ التاريخ حافظٌ أمين؛ يحفظُ مواقفَ الخير، وتصرفات الشر، لكنَّه يكتبُ لأهل المواقف الطيبة الناضحةِ بالشجاعة والنبل، الخلودَ في ذاكرةِ الزمن، والبقاءَ في مخيلاتِ النَّاس، ويرمي أهلَ المواقف السيئة في مزابلِ النسيان، وفيافي الإهمال، وليس يبقى ذكرُ أحدٍ من هؤلاء إلا إنِ اقترن بذكرِ أهلِ الخير (كما بقي ذكرُ ابنِ أبي دؤاد لأجلِ اقترانه بمحنةِ أحمد بن حنبل - رحمه الله ورضي عنه)، أو اقتضتْ حكمةُ الله أن يبقى ليكونَ عبرةً للمعتبرين، وعظةً للمتدبرين.



ولذلك حفظ النَّاسُ قديمًا وحديثًا قولة المعتمد: "رعي الجمال خير من رعي الخنازير"، وحفظوا معها أنَّ المعتمدَ أبت له شهامتُه أن يذلَّ لأعداء الدِّين، وفضَّل التضحيةَ بالعرش - إن كان ولا بد - على التضحيةِ بالدِّين، وجهل أكثرُ النَّاس الواقعةَ الأخرى، أو تجاهلوها.



إنَّ النَّاسَ في كلِّ زمانٍ مغرمون بالبطولة، متيَّمون بالشَّجاعة؛ تهفو قلوبُهم إلى الكلماتِ المفعمة بسمو العزائم، والأفعال التي تشي بنبلِ الأخلاق، والتعلق بأسبابِ المجد.



وإنهم في كلِّ زمان أيضًا يبغضون الذُّلَّ، ويكرهون المهانة، ويعافون الخلودَ إلى الأرض، وإذا وقع من أحدِهم شيءٌ من ذلك، لم يسره أن يظهرَ أمام النَّاسِ، بل هو يخفيه كما تُستر السوءات، التي يُستحيى من بروزِها.



لا جرم أنَّهم يذكرون ما يحبُّون، وينسون أو يتناسَوْن ما يكرهون.



ويتأكَّدُ هذا الأمرُ في عصور الهزيمة، وحِقب الانحطاط، حين يعوز النَّاسُ أن يمارسوا البطولة، أو يروها ماثلةً أمام أعينِهم؛ فيلجؤون إلى تمثلِها في التاريخ، وتصورِها في أزمنة الماضي.



فهل يفهمُ أشراف المسلمين وأهلُ الفضلِ منهم هذا المعنى الخطير، فيبادرون إلى تدوينِ أسمائهم في سجلاتِ الفخار، بالمدادِ الذي لا يُمحى؟



الدرس الثالث:

قد يجتمعُ في الشَّخصِ الواحد خيرٌ وشرٌّ، ويمتزجُ في سيرته حقٌّ وباطل، وتتجاورُ في أقوالِه وأفعاله الحسناتُ والسَّيئات، فالسعيدُ من غلب خيرُه شرَّه، وغمر حقُّه باطلَه، وفاقتْ حسناتُه سيئاتِه.



والمتطلب في بني البشر - حاشا من عصمَهُ الله من الأنبياء والمرسلين - خيرًا محضًا لم تداخلْه شبهةُ شرٍّ، وحقًّا صرفًا لم تخالطْه شائبةُ باطلٍ - كالذي يتطلبُ جذوةَ النَّار المتَّقدة في حضنِ الماء.
فَلَسْتَ بِمُسْتَبْقٍ أَخًا لاَ تَلُمُّهُ
عَلَى شَعَثٍ أَيُّ الرِّجَالِ الْمُهَذَّبُ



الدرس الرابع:

قراءةُ التاريخِ ينبغي أن تكونَ بنظرةٍ شاملة، لا تجتزئ ببعضَ المواقف والأحداث وتبني عليها حُكْمًا عامًّا، فالاستنادُ إلى بعض مواقفِ المعتمد دون بعضِها الآخر، أفضى ببعضِ النَّاسِ إلى فَهْم مغشوشٍ لشخصيةِ الرَّجل.



ولا يزالُ كثيرٌ من الذين يكتبون في التاريخ - من المعاصرين خصوصًا - ينظرون إلى الدول السَّابقةِ، وأعلام التاريخ نظرةً سطحية، تنطلقُ من فكرةٍ مسبقة جاهزة، ثم تعممها على الشخصِ المحكوم عليه، أو الدولة المراد تقويمها، بطريقةِ التجزيء والاقتطاع.



فإذا أرادوا إظهارَ صورةِ شخصٍ صالح يستحقُّ الثناء، ضخَّموا كلَّ مواقفِه الحسنة، وأغفلوا كلَّ مثالبِه - قلَّتْ أو كثرتْ - والعكس بالعكس.



والحقيقةُ التاريخية في غالبِ الأحيان أعقدُ من ذلك بكثير، وأغلبُ النَّاسِ يجتمع فيهم خيرٌ وشر، وحقٌّ وباطل، فالمنهجُ العلمي يقتضي إبراز كلِّ ما ثبتَ من الحقائق التاريخية، ولا يعملُ منهجَ الموازنات إلا عند إرادةِ إصدار الحكمِ النهائي على الشخص، فحينئذٍ يوازنُ بين الحسناتِ والسيئات، ويحكم بالغالب.



الدرس الخامس:

إنَّ الحكم على الأشخاص - قدماء أو محدثين - ينبغي أن يكونَ معتمدًا على ضوابطَ شرعيةٍ واضحة، ومن أعظمِ الخطل أن تُتركَ هذه الضوابطُ لغيرِ حملة الشريعة؛ من الأدباء أو الإعلاميين أو كلِّ مَنْ بضاعتُه التقميش السَّاذج في كتب التواريخ.



إنَّ للأدباء - على الخصوص - طرائقُ عجيبةٌ في تزيين القبيح، وتشويه الحسن، وهذه القدرةُ تحسب لهم في مقاماتِ الأدب، ومراتب الفنِّ، ولكنَّها لا يمكنُ أن تغيرَ الحقائق الثابتة، فالحسنُ حسنٌ والقبيحُ قبيحٌ.



ويحضرني في هذا البابِ ما نقله الجاحظُ عن مالكِ بن دينار أنَّه قال: "ربَّما سمعت الحجاجَ يخطبُ؛ يذكرُ ما صنع به أهلُ العراقِ وما صنع بهم، فيقع في نفسي أنَّهم يظلمونه وأنَّه صادقٌ لبيانِه وحسنِ تخلُّصِه بالحجج"[8].



ويحضرني أيضًا هجاءُ المتنبي لكافور الإخشيدي في تلك الدالية السائرة، التي ما أنشدها طالبُ أدبٍ إلا ظهرَ له المهجوُّ في أقبحِ صورة؛ حسًّا ومعنًى، مع أنَّ التاريخَ يشهدُ لكافور بحسناتٍ ومقامات عالية في العدلِ وسياسة الدولة[9].



وهذه فتوحُ "سيف الدولة" خلَّدها المتنبي بشعرِه، مع أنَّها إذا قِيست ببعضِ المعارك الكبرى التي انتصف فيها المسلمون من أهلِ الشِّرك؛ كحطين وعين جالوت، لم تكن شيئًا مذكورًا، ولكنَّه سحرُ البيان!



الدرس السادس:

اشتهر المالكيةُ في القديمِ بالشِّدة في الحقِّ، والصَّرامة في قطع دابرِ الباطل، خاصةً في مسائل الاعتقاد، كما تراه جليًّا في فتواهم التي نقلنا آنفًا، واشتُهِر في المشرقِ إحالة قضايا الزنادقة والمرتدين على القاضي المالكي دون غيرِه، لِمَا عُرِف عن المالكيةِ من تشددٍ في هذا الباب[10].



أمَّا في هذا العصر، فقد ابتُلي المذهبُ المالكي بقومٍ ينتسبون إليه زورًا، ما تركوا بابًا من أبوابِ التمييع إلا طرقوه، ولا سبيلاً من سبلِ التَّساهلِ المذموم إلا سلكوه، حتَّى صار المذهبُ المالكي في أذهانِ كثيرٍ من عوام النَّاس مرادفًا للتساهل وموافقة الهوى.



ومن هنا تعظمُ الحاجةُ إلى تصحيحِ هذه الصورة المغلوطة، دونَ إفراطٍ ولا تفريط، وتقعُ مسؤوليةُ ذلك على كبارِ فقهاء المالكية في عصرِنا.



الدرس السابع:

قد يقعُ لبعضِ المؤرِّخين أو الأدباء شيءٌ من التحامُلِ غير المقصود - في الغالب - على البربر، أهلِ المغرب الأصليين، ومثاله ما وقع لجرجي زيدان في روايتِه "شارل وعبدالرحمن"، وللشيخِ الأديب العلاَّمةِ علي الطنطاوي - رحمه الله - في قصتِه "عشية وضحاها" ضمن "قصص من التاريخ"، ولغيرهما.



وفي هاتين القصَّتَين يظهرُ البربرُ بمظهرِ الهمج الرِّعاع، الذين لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتون إلى أسباب الحضارةِ بصلة.



والحقُّ أنَّ البربر كغيرِهم من أمم الأرض، فيهم الخيرُ والشرُّ معًا، ولا تتمحض نسبتهم إلى أحدِهما.



نعم، ذكر المؤرِّخون أنَّ انتشارَ الإسلام فيهم مرَّ بكثير من العراقيل، حتَّى إنَّ كثيرًا من قبائلهم ارتدت عن الإسلام نحوًا من اثنتي عشرة مرة[11]، ولكنَّهم بعد أنْ عرفوا الإسلام حقَّ المعرفة، وخالطتْ بشاشته قلوبهم، تمسَّكوا به أشدَّ ما يكون التمسك، ونافحوا عنه أمامَ أعدائِه، وانطلقوا برايتِه يحملونها ما بين البرانس شمالاً وأقاصي إفريقيا جنوبًا، ولا يزالون - في الغالب - على هذه الحماسةِ الدِّينية إلى يومِ النَّاس هذا.



إنَّ بعضَ الكتاباتِ قد تكون نيةُ أصحابِها حسنةً، ولكنَّها قد تتخذُ مطيةً لبعض دعاة العصبية، وسدنة العنصرية العرقية، فليحذرِ الأدباءُ من إرسالِ أعنَّةِ أقلامِهم في بعض المراتع الوخيمة.



والحمد لله ربِّ العالمين.


[1] نفح الطيب؛ للمقري (4/274).

[2] نفح الطيب؛ للمقري (4/359)، وتاريخ الإسلام؛ للذهبي (32/25)، وفيه أنَّه أجاب الإذفنش بقوله:

الذُّلُّ تَأْبَاهُ الْكِرَامُ وَدِينُنَا
لَكَ مَا نَدِينُ بِهِ مِنَ الْبَأْسَاءِ
سُمْنَاكَ سَلْمًا مَا أَرَدْتَ وَبَعْدَ ذَا
نَغْزُوكَ فِي الْإِصْبَاحِ وَالْإِمْسَاءِ
اللهُ أَعْلَى مِنْ صَلِيبِكَ فَادَّرِعْ
لِكَتِيبَةٍ خَطَبَتْكَ فِي الْهَيْجَاءِ
سَوْدَاءَ غَابَتْ شَمْسُهَا فِي غَيْمِهَا
فَجَرَتْ مَدَامِعُهَا بِفَيْضِ دِمَاءِ
مَا بَيْنَنَا إلاَّ النِّزَالُ وَفِتْنَةٌ
قَدَحَتْ زِنَادَ الصَّبْرِ فِي الْغَمَّاءِ

[3] سير النبلاء (18/583)، وفي المعجب للمراكشي (دار الفرجاني - ص 115): "فخرج المعتمد حنقًا وبيدِه الطبرزين حتى صعد الغرفةَ التي فيها ابنُ عمار، فلمَّا رآه علم أنه قاتله فجعل ابن عمار يزحف - وقيوده تثقله - حتى انكبَّ على قدمي المعتمدِ يقبلهما والمعتمدُ لا يثنيه شيء فعلاه بالطبرزين الذي في يده ولم يزل يضربه به حتى برَد"!

[4] نفح الطيب (1/440).

[5] صدق الحبيبُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين قال في الحديث الصَّحيح: ((يكفرْنَ العشيرَ ويكفرنَ الإحسان: لو أحسنتَ إلى إحداهنَّ الدَّهرَ، ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيتُ منك خيرًا قط)).

[6] تاريخ ابن خلدون (6/187).

[7] الدواهي المدهية لجعفر بن إدريس الكتاني (111)، ينقله عن نوازل البرزلي.

[8] البيان والتبيين (1/311)، دار الهلال، ت: علي أبو ملحم.

[9] قال الذَّهبي في ترجمته من سير النبلاء: "وكان مهيبًا، سائسًا، حليمًا، جوادًا، وقورًا .."، وقال أيضًا: "وكان ملازمًا لمصالحِ الرعية، وكان يتعبَّدُ ويتهجَّدُ ..".

[10] وقد يكون الأصل في ذلك مذهب مالك في عدم استتابة الزنديق، قال ابنُ رشد في (البيان والتحصيل) 16/391): "هذا أمرٌ متفق عليه في المذهبِ أنَّ المرتدَّ المظهرَ الكفر يُستتاب، وأنَّ الزنديق والذي يسر اليهودية أو النصرانية أو ملة من الملل سوى ملة الإسلام يقتل ولا يستتاب، والشَّافعي يرى أنَّهما يستتابان جميعًا...".

[11]اشتهر قول ابن خلدون في مقدمته؛ مؤسسة الرسالة، ت: مصطفى شيخ مصطفى، (ص: 173)، قال ابن أبي زيد: ارتدت البرابرةُ بالمغربِ اثنتي عشرة مرة، ولم تستقر كلمةُ الإسلام فيهم إلا لعهدِ ولاية موسى بن نصير فما بعده.

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/32514/#ixzz1Q1jbYAwY

الأحد، 1 مايو 2011

دور العربية في البعث المنشود بين الواقع والآمال

إنَّ انبعاثَ الأُمم التي تراكمتْ عليها حِقبٌ زمنيَّة متطاولة مِن الجمود والهوان، يمرُّ - في العادة المطَّردة التي لا تكاد تنخرِم - عبرَ إحياء القِيَم الفِكرية والثقافيَّة التي منها قوامُ حياتها، وبها تحصيلُ تميُّزها الحضاري.



والأمَّة الإسلامية لا تشذُّ عن هذه القاعدة، فإنَّها سُنة كونية دلَّ عليها استقراءُ تاريخ صعود الحضارات وسقوطها.



ولا شكَّ أنَّ اللغة هي أعظمُ هذه الأُسس الفكرية والثقافية، التي يمكن توحيدُ الأمة على بِساط مراعاتها، وحِفظ أصولها الكُبرى[1].



وإذا كان الأمرُ صحيحًا في الأمم كلها، واللغات جميعها - وهو صحيحٌ بلا ريب - فكيف يكون الحالُ إذا كانتِ الأمَّة هي الموصوفة في كتاب الله تعالى بأنَّها ﴿ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110]، وإذا كانتِ اللُّغة هي تلك التي اختارَها الله - عزَّ وجلَّ - لتكونَ وعاءً لأشرفِ كلام، وأفصحِه وأسماه؟



إنَّ الأمَّة الإسلاميَّة - بعربها وعجمها - عاشتْ أعظم مظاهِر عظمتها، وأسْمق تجليَّات رقيها، حين كانتْ متحلِّقةً حول مائدة اللُّغة العربية، تنهل مِن صفاء معينها الذي لا يَنضَب، دون أن تُغفِل اللغات الإسلامية الأخرى[2]، تعلمًا وتعليمًا.



وإنَّ الأمَّة بعدَ ذلك عرفت أحْلك ليالي ذلِّها، وتخلفها عن ركْب الحضارة المنطلق، حين تركتْ هذه اللغةَ الجامعة الموحِّدة، وانشغلتْ عنها بلغات قوميَّة متنافرة، ثم بعد ذلك بلغات الأعداء المتربِّصين.



أهمية العربية:

ولذلك فيُمكن القول: إنَّ اهتمامنا بالعربية اليوم هو دعوةٌ إلى ربْط حضارتنا المتلجلجة في مخاضِ انبعاثها العسير، بتلك الأُسس الراسِخة التي قامتْ عليها حضارتُنا الشامخة في تلك الأزمنة الراقية[3].



إنَّ إتقان العربية مظهَر ساطع للارتباط النَّفْسي بالقرون المفضَّلة، في عِلمها وعَملها، في دعوتها وجهادها، في انتصاراتها وإشعاعها الحضاري العالمي؛ لأنَّ العِلمَ بأحوال المقتدَى به أول درجات الاقتداء، والترجمةُ - باللُّغات الإسلامية أو باللهجات العامية المنحرِفة - حجابٌ كثيف يمنَع الفَهْم الدقيق، والتفاعُل الإيجابي المتكامِل.



ثم إنَّ هذا الارتباط المنشود يُصبح أكثرَ حساسيةً، حين يتعلَّق الأمر بنصوص الوحيين، فالمسألة حينئذٍ تُصبح مسألةَ معرفةِ مُراد الله تعالى مِن البشر المتلقِّين للخطاب القرآني، والعِلم بما يطلبه الشارعُ مِن عموم المكلَّفين، وبعبارة أوضح: فإنَّ فَهْم نصوص الكتاب والسنة لا ينفكُّ عنِ المعرفة الشاملة باللغة العربيَّة، التي هي وعاؤهما ومحضنهما.



وبعدَ نُصُوص الوحي، يأتي ذلك التراكمُ المعرفي الهائِل الذي دبَّجتْه أناملُ علماء الأمَّة، عبرَ أكثرَ مِن خمسة عشر قرنًا من الإنتاج الفِكري الدائب، ممَّا لا نظيرَ له في أمَّة من الأمم الأخرى، إنَّ الاستهانة باللُّغة العربية، أو محاولة تخريب أصولِها بدَعْوَى التجديد، تفريط إجْرامي في تُراث حضاري شامِخ، لا يُمكن النهل من معينه الثرِّ إلاَّ من طريق هذه اللُّغة.



ونحن أخيرًا عندما ندعو إلى الوَحدة الإسلاميَّة الجامعة، نؤمِن بأنَّ ذلك لا يكون إلا بإحياء التوحيد اللُّغوي بين المسلمين، عبْرَ وشيجة اللُّغة التي اصطفاها الله تعالى لكتابه، واختار خاتمَ رُسله من أهلها، ويُحرجني كثيرًا أنَّني أحتاج في بعضِ البلاد الإسلامية التي أزورَها إلى الكلام بالإنجليزية لتحصيلِ التفاهُم، أليس مِن الأولى أن تكون الواسطةُ بيننا لغةَ القرآن، التي هي لُغتي الأصلية، ولُغة المسلمين الدينيَّة - إن صحَّ التعبير؟!



وليس معنى ذلك أن نغفل اللُّغاتِ الإسلامية الأخرى، أو نُهمل دورَها الحضاري، ولكن يَنبغي أن تكون العربيةُ محورًا توحيديًّا نابعًا من الإسلام، تتفرَّع منه اللغات الأخرى.



الواقع:

هذه إذًا أهمية اللغة العربية، في التركيب الإجمالي للبَعْث الإسلامي، فأين وصلتِ الدعوة إلى التمسُّكِ بها في واقعِ الأمَّة؟



لا نبعد النُّجْعةَ كثيرًا إنْ قلنا: إنَّ الأمَّة تعيش أزمةً لُغوية خانقة، ليستْ بمعزل عن الأزمة الحضارية العامَّة التي تتخبَّط فيها.



ويُمكننا أن نُجمل الإشكالات اللُّغوية في محورين كبيرين، في كلٍّ منهما مسائل كثيرة، سنعرِضها باختصار، مع إيماننا العميق أنَّ عَرْض كل مسألة منها وتحليلها يحتاج إلى مقالاتٍ متعدِّدة، فضلاً عن مقال واحد.



معاول الهدم الخارجيَّة:

خرَج المحتلُّ الأجنبي مِن بلاد المسلمين بعساكره، وخلَّف وراءَه من ثقافته وحضارته الشيءَ الكثير، وأخطر ما ترَك: لُغته التي صارتْ مِن بعده الأداة الفاعلة للارتباط الثقافي الوثيق بيْن الأجنبي ومستعمراته السابِقة.



ولم تُعانِ اللُّغة العربية قطُّ في تاريخها الطويل مِن ضيم مِثل هذا الذي تُعاني منه بسبب هذه اللُّغات المتسلِّطة على رِقاب أهل القرآن، فقد تحرَّفت بسببها تراكيبُ العربية، وتغرَّبت ألفاظها، وذابتْ أفانين بلاغتها؛ بل فسدتْ أذواق أهلها في الأدب والشِّعر، وفي كلِّ فن مِن فنون القول.



واتَّسع الخرْقُ على الراقع حين تناسلتِ العلوم العصريَّة والتقنيات الحديثة، الوافدة مِن بلاد الغرْب بجحافل مصطلحاتها التي لا تُحصَر، ووجَد القائمون على اللُّغة العربية أنفسَهم في دوَّامة لا تنتهي مِن التعريب، الذي لا أثَر له في الواقع، ممَّا دفَع أكثر المسلمين إلى التخلِّي أكثرَ عن العربية، والتشبث بلغاتِ الغرب.



معاول الهدم الداخليَّة:

وبمقابل هذا الغزو العاصِف من الخارج، وُجِدتْ في داخل البلاد الإسلامية دعواتٌ هدَّامة، تصدر عن مقاصد مشبوهة، وتتدثر بمسوح البحْث العلمي المتجرِّد، مع أنَّها لا تُخفي غالبًا ارتباطها بدوائرِ القرار الاستعماري، فمن ذلك:

• الدعوة إلى العامية، واستبدال الفصحى بها، وهي دعوةٌ قديمة تصدَّى لها أئمَّة اللغة في العصر الحديث، ولكنَّها تظهر رأسها بين الفَيْنة والأخرى.



• الدعوة للكتابة بحروف الهِجاء اللاتينية، وإلْغاء الحروف العربيَّة، بدَعْوى صعوبة قواعد الإملاء.



• الدعوة لتجديدِ قواعد العربية في النحوِ والصرف والعَروض وغيرها، والمقصود هنا دعوات الهدْم المتستِّرة بحجاب التجديد، أمَّا التجديد البنَّاء فمطلوبٌ محمود.



• الدعوة إلى التيسير في الخِطاب الدعوي[4]؛ لجذْبِ الجماهير الغافلة، ممَّا يُولد لُغة هجينة تُسهِم في تدنِّي الذوق اللُّغوي العام.



ومِن معاول الهدْم الخطيرة الدعواتُ القومية التي تتبنَّى دعوةً عنصريَّة مقيتة، تفرِّق بين المسلمين عَربِهم وعَجمِهم، إنَّ الخلط في الوعي الجَماعي بين دعوتنا النقيَّة مِن شوائب العصبيَّة، وبيْن هذه الدعوات القوميَّة الكالحة، ذات الأبعاد السياسيَّة المشبوهة، يُسيء كثيرًا إلى مستقبل اللُّغة العربية ودَوْرِها في البَعْث المنشود.



التطلعات:

هكذا الواقع كما يبدو للمتأمِّل، مع أنَّ ما أغفلتُه مِن الصور القاتمة أكثرُ ممَّا ذكرتُه!



لكن خطورة المرَض لا تَزيدنا إلا إصرارًا على التحدِّي، بالبحث عن أفضلِ أنواع العلاج، والذي يظهر مِن تدبر الواقع، واستشراف المستقبل، أنَّ العلاج يكمُن في المحاور الآتية:

أولاً:

أنَّ أوَّل ما يَنبغي أن يعتقدَه كلُّ حامل لهمِّ هذه القضية اللُّغوية، أنَّها من الأولويات العُظْمى، وليستْ من قبيل التَّرَف الفِكري، أو الكمال الثقافي، إنها باختصارٍ قضية مصيرية: قضية حياة أو موت مِن الناحية الحضاريَّة، وإذا كان الأمرُ كذلك، فمِن الغلط الشنيع أن يوزَّع عليها فتاتُ الأوقات والجهود[5].



ثانيًا:

أنَّ إحياءَ العربية وإشراكها في البَعْث الحضاري للأمَّة: قضيةٌ إسلاميَّة، يَنبغي أن يحمل لواءَها العامِلون للإسلام مِن العلماء والدُّعاة والإعلاميِّين وقادَة الجماعات والجمعيَّات وغيرهم، ولا يَنبغي أن تُترَك القضية بأيدي دُعاة القوميَّة، فإنَّ إفسادهم في هذا الباب أكثرُ مِن إصلاحهم، وأهل الإسلام أقْدَر مِن غيرهم - لأسباب موضوعية وذاتية - على القيامِ بواجب البعْث اللُّغوي.



ثالثًا:

أنَّ المَجامِع اللُّغوية التي تنتَشِر في أرجاء العالَم العربي، لم تعُدْ قادرةً على تحقيق الأدوار التي أُنيطت بها؛ وذلك إمَّا لقصور ذاتي بسببِ قلَّة انفتاحها على علماءِ اللُّغة المبرزين، واكتفائها في أحايينَ كثيرةٍ بأصحاب الشهادات الأكاديميَّة بقَطْع النَّظَر عن شرْط الكفاءة؛ وإما لقصورٍ منهجي، جعَلَها تكتفي بوضعِ قوائمِ التعريب للمصطلحات الحديثة، في انفصام كُلي عن الواقع اللُّغوي للأمَّة، التي صار كثيرٌ مِن أفرادها ينظُر إلى هذه الألفاظ المستحدَثة برِيبة أو سُخرية.



إنَّ معالجة هذين النوعين من القُصور كفيلٌ بإحياء كثيرٍ ممَّا اندثَر مِن مباهج هذه اللُّغة الكريمة.



كما أنَّ المَجامع ينبغي أن تضطلعَ بدور الترغيب عبْر تبنِّي المسابقات الأدبيَّة واللُّغوية المحكَمة، التي يمكنها أن تُثمِر كتبًا ومقالات ودواوين شِعر، وأبحاثًا لُغوية، في مستوى لُغة القرآن.



رابعًا:

عرَفت الأمَّة منذ عصر النهضة الحديثة مجهوداتٍ كثيرةً في مجال التجديد اللُّغوي، لكنَّ كثيرًا منها ترَك سبيل كلِّ حركة تجديدية ناجعة؛ أي: سبيل تيسير الأساليب، واستخدام التقنيات الحديثة في العَرْض، وتقريب كنوز التراث إلى الجماهير المتعطِّشة للمعرفة، وسلك طريق الهدْم المنهجي للمضمون الزاخِر الذي أظهر كفاءتَه عبْر القرون المتطاولة!



إنَّ تيسير النحو أو البلاغة أو العَروض، أمرٌ مطلوب، لكن على أن يكون بناءً يُرمِّم ما تخرَّب، ويُزين ما أفسدتْه قرون الجمود، لا أن يكون هدمًا واستئصالاً، يَقطع صلةَ حاضر الأمَّة بماضيها[6].



خامسًا:

للتعليم دَورُه الذي لا يجحد في البَعث اللُّغوي المرجوِّ، ومِن أعظم المهلكات الحضارية ما نراه مِن تشتُّت لُغوي ذريع في مدارسنا، يُعاني منه أطفالُ الأمَّة.



إنَّ أذهان الأطفال كالعجين الذي يُمكن أن يُشكِّله المربِّي على أيَّة هيئة يشاء، فإذا حُشي باللغات الأجنبية قبْل التمكُّن مِن لغته الأصلية، أوْشَك هذا الذِّهن أن يتنكر لثقافته ودِينه، ويحنُّ إلى ثقافة الآخرين وحضارتِهم، كما هو مشاهَدٌ في متغرِّبي الأمَّة، الذين فقدوا الأواصرَ التي تجمعهم بأمَّتهم، حين فقَدوا - منذُ الصغر - تعلُّقَهم بلُغة الضاد.



ينبغي أن يتحرَّر التعليمُ في بلداننا مِن عقدة اللُّغة الأجنبية، التي خلَّفَها المستعمر وراءَه، وترَك معها سَدنةً يقومون بواجبِ المنافحة عنها، وتعبيد السُّبل أمامَها إلى أذهان الناشِئة.



سادسًا:

إنَّ على الدعاة الذين يَنهدُون بأعباء نشْر كلمة الإسلام، وتبليغها إلى القلوبِ والعقول، أن يَجعلوا من العربيةِ السليمة مِن أوضار العُجمة وسيلتَهم الأولى في خِطاب الجمهور، لا يَعْدِلون عنها إلى العاميات المبتذلة التي تُفرِّق ولا توحِّد، إلاَّ لضرورة معتبَرة، أو حاجة متيقَّنة.



أليس غريبًا أن تجِدَ الفضائيات الإسلامية تعجُّ بألوان مِن العامية، التي تُؤذي الآذان والعقول، وتَمْسخ الوعي الفِكري، بدلاً من أن تكونَ منارةً لنشْر العربية، وتعليمها وحثِّ الناس على حبِّها والتعلُّق بها، كما يتعلَّق الغريق بطوقِ النجاة؟!



لِمَ لا تتبنَّى هذه القنواتُ برامجَ منهجيَّةً لتعليم العربية لغير العرَب من المسلمين، وللعرَب بالنسب دون الثقافة، كما تتبنَّى الوعظ الجماهيري، والتربية العامَّة؟!



سابعًا:

تميَّز عصْر النهضة الأدبية الحديثة بصدور مجلاَّت أدبيَّة ولُغوية سامقة، تبنت جمعًا من كبار الأدباء والباحثين، بثُّوا في الأمة ثقافةً عربيةً رصينة، ما يزال أثرُها غضًّا طريًّا، إنَّ مِن أعظم ما ينبغي العناية به: خلْق مجلاَّت لُغوية وأدبية دورية ومُحكَّمة، تقتنص الأدباء المتمكِّنين، واللُّغويين المتمرِّسين، وتنشُر لهم ما تجود به قرائحُهم، فتنتشلهم مِن حمأة الخمول الذي تردَّى فيه أكثرُهم، ومِن ذلِّ الهجران الذي يلقونه مِن معاصريهم، حتى صار كثيرٌ منهم يكتبون ولا ينشرون؛ فتضيع مواهبُ زَكيَّة، ومقدَّرات عليَّة.



لقد تعِب مثقَّفو الأمَّة الرصينون مِن هذه الدوريات التي تنشُر الأدب الحداثيَّ الذي لا يكاد يُفهَم، والدراسات اللُّغوية التي تهدِم لذات الهدْم، وتتنكر للقديم؛ لأنَّه قديم!



وإذا كانتِ المجلات تُعاني من همومِ النشر، بسبب غلاء أسعار الطباعة، وقلَّة ذات يد القارئ العربي، فإنَّ كثيرًا من أصحاب الأموال الغيورين على لُغة القرآن لا يُمانعون في تبنِّي مِثل هذه المشروعات العظيمة، ثم إنَّ في النشر على الشبكة العنكبوتيَّة - إذا رُوعيت فيه ضوابطُ الجودة - ما يُفرِّج كثيرًا مِن هذه الهموم.



هذه بعضُ المقترحات التي يكفُل الأخذ بها - بجدٍّ وحِرص - أن يُعيد للعربية مجدَها، ويجنِّدها مِن جديد؛ لتشارك في البعثِ الإسلامي الشامِل.

[1] الاعتناء باللُّغة كان - ولا يزال - قاسمًا مشتركًا بين كل الدعوات إلى إحياء الأُمم والقوميات، ولا يَعرف التاريخ أمَّةً انبعثت من رقدتها وهي ترطن بلغات أعدائها وخصومها، وهذه دولةُ اليهود في فلسطين أَحيتْ لغة ميِّتة غير متداولة هي العِبرية، لا لشيءٍ إلا لإيجاد اللحمة الجامِعة بين أشتات المهاجرين اللُّقطاء!

[2] أقصد باللُّغات الإسلاميَّة تلك اللُّغات التي حملتها إلى دائرة الإسلام شعوب غير عربيَّة، كان لها في الإسلام قدمُ صِدق لا يتمارَى فيه؛ كالفارسية والتركية والكردية والبربرية، ونحوها، وهي كلها لغات بينها وبين العربيَّة علائقُ تأثير متبادلة لا يُمكن جَحدُها.

[3] ولا نحتاج إلى التنبيهِ على أنَّ المراد بذلك الربط توثيق العُرى الفكرية؛ لتمثل الصواب في العقائد والأفعال، مما يتجاوز حدودَ الزمان، وليس المراد قطعًا الجمود فيما يكون الأصل فيه الحرَكة التجديديَّة الدائبة.

[4] المطلوب مِن الداعية تعليمُ الجماهير ورفْع مستواها الفِكري، دون أن يقَع في مزلق الخِطاب النخبوي المتخصِّص، والمُشاهَد اليوم نوعٌ من التيسير المجحِف باللغة والفِكر، يسفُّ فيه الداعية إسفافًا بالغًا، بدعْوَى الهبوط إلى مستوى الجُمهور.

[5] درَج علماءُ الشريعة قديمًا على جعْل تعلم العربية أوَّل ما يبدأ به الطالب بعدَ القرآن؛ بل ذهَب جماعة إلى تقديمِ العربية على القرآن؛ لأنها أداة فهْمه، هذا في زمنهم الذي لم يكُن للعربية منافِسٌ معتبر مِن اللغات الأجنبية، فكيف يكون الحُكم في زماننا؟!

[6] للدكتور محمَّد محمد حسين كلامٌ طيِّب في إنكار هذه الدعوات الهدَّامة، نقله صاحب "أعلام وأقزام"(468/1-470).

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Literature_Language/0/31479/#ixzz1Q1isf8jZ

السبت، 30 أبريل 2011

دفاع عن الفصحى

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن الدعوة إلى العامية من أعظم معاول الهدم التي تتربص باللغة العربية. وقد نشأت هذه الدعوة منذ أكثر من قرن من الزمان، لكن تصدى لها أكابر العلماء والأدباء، فقبروها في مهدها، وجعلوا عامر ديارها يبابا، إلا قليلا مما لا تأثير له.
وازدادت هذه الدعوات إلى العامية ضعفا وركودا، حين انتشرت في الأمة بذور البعث الإسلامي، فانطلق الدعاة والعلماء منذ عقود يدعون إلى إنقاذ الفصحى في ضمن دعوتهم للإسلام، موقنين بأن العربية وعاء هذا الدين، وأن ضعفها في النفوس لن تكون نتيجته إلا انقطاعا عن الإسلام، وانحسارا لحسن التفقه في الدين.
واستمر الأمر على هذا النحو إلى أن ظهر في السنوات الأخيرة بعض الدعاة الذين اتخذوا من العامية (المصرية خصوصا) لغتهم الأولى التي لا يبغون عنها في خطابهم بديلا. وانتشر هذا الفعل في دروس الوعظ بالمساجد والفضائيات، بل في خطب الجمعة وبعض دروس العلم.
وكنا نحسب الأمر ''تقليعة'' جديدة، لن تعتم أن تنزوي في جحرها الذي خرجت منه، حين تمر عليها حقبة من الزمان، وتستنفذ أسباب وجودها.
وكنا نظن أن هذا كله لا يعدو أن يكون خاصا بمن يسمونهم (الدعاة الجدد)، الذين اصطنعوا لأنفسهم أسلوبا جديدا في الدعوة الدينية، يتنازلون فيه عن بعض الأسس والثوابت، رغبة في كسب ود الناس، وتمام التقرب من أصناف غير المتدينين.
فقلنا – على شيء من المضض غير قليل -:
لا بأس! ولنكن (ماكيافلليين) قليلا، فنقبل هذه الوسائل المرذولة، طلبا للغايات النبيلة!
لكن الخرق اتسع على الراقع، وانتقل الداء من (الدعاة الجدد) إلى (الدعاة القدامى)، بل إلى العلماء المتمكنين، المتصدرين لإفادة الناس وتعليمهم.
وانتقلت عدوى العامية من مجالس الدعوة العامة، إلى مجالس العلم الخاصة. بل صرنا نرى – ولولا أنني رأيت ذلك بعيني ما صدقته لشناعته – درسا في النحو العربي، يلقيه صاحبه بالعامية!
فقلنا: ما بقي للسكوت مجال، فإن هذه اللغة التي شرفها الله عز وجل، فجعلها لغة كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يده ولا من خلفه، أحب إلينا من فلان وعلان، كائنا من كان.
أتعجب كثيرا حين أسمع كثيرا من أحبابنا المصريين من العلماء والدعاة، يحرصون على إلقاء دروسهم بالعامية المصرية، ولعلهم يعولون كثيرا على أن غالبية العرب يفهمون اللهجة المصرية.
ووجه العجب أن المصريين هم حماة الفصحى قديما وحديثا. وما أزال كلما سئلت عن تعلم النحو، أرشد السائل إلى كتب ابن هشام الأنصاري، مع هوامش محيي الدين عبد الحميد. فإن طلب مني ثالثا، زدته الشيخ خالدًا الأزهري.
وهؤلاء المصريون الثلاثة – رحمهم الله وأجزل مثوبتهم - أُلين لهم علم النحو في العصور المتأخرة، كما ألين لداود الحديد. فما أعظم فضلهم على علوم العربية، وما أعظم تقصيرنا في حق كتبهم وتحقيقاتهم العلمية!
وما أزال أيضا إذا سئلت عن تعلم أساليب الكتابة العصرية، وعن أفضل كتب الأدب الحديث، أرشد السائل إلى كتب محمود شاكر والرافعي ومبارك والمازني والعقاد، وأضرابهم، من عظماء مصر الحديثة.
وإذا كانت الدعوة إلى العامية قد نشأت في أوائل القرن العشرين عند بعض المتغربين من أهل مصر، فإن أعظم الردود العلمية الرصينة على هذه الدعوة الرعناء، إنما ولدت وترعرعت واشتد عودها في مصر أيضا.
وإذا كانت مصر قلب الأمة النابض كما لا يخفى، فإن الناس في كل مكان من ربوع هذه الأمة تبع للمصريين في الخير وفي الشر.
ولذلك صرنا نرى في المغرب مثلا نابتة (لا تزال قليلة) تتشبه بالقوم في الكلام بالعامية. وصرنا نسمع أيضا بعض الدعاة من أهل الجزيرة العربية يرطنون بعاميتهم أيضا.
ولنتخيل ماذا سيحدث لهذه الأمة المتشرذمة، إذا صار العلماء والدعاة من أهل المغرب وشنقيط والجزائر ونجد والعراق والشام واليمن يلقون دروسهم، كل واحد بعاميته التي نشأ عليها في بلده. ما الذي سيبقى حينئذ من وحدة هذه الأمة؟
بل ماذا سيبقى من هذه اللغة، التي يتكالب عليها الهدامون من كل حدب وصوب، حتى إذا اطمأنت إلى من تحسبهم أصدقاءها وحماة بيضتها، إذا هم يقلبون لها ظهر المجن، ويطعنونها في ظهرها، طعنة نجلاء، لن تفيق منها إلا أن يتداركها الله برحمته.
قد يقول قائل: أنت تغلو في وصفك، ونحن إنما نريد التيسير على الناس، لتسهيل التواصل معهم.
وأنا أجيب: أخشى أن هذا الأمر تلبيس شيطاني، لا نصيب له من الصحة. وإلا فلتخبرني – وفقك الله لمرضاته - ما الفرق في معيار التيسير هذا بين أن يقول الداعية: (احنا عاوزين نشرح الحتة دي) وبين أن يقول (نحن نريد أن نشرح هذا الأمر)؟
وهل يوجد بين عوام الناس من لا يفهم الجملة الثانية، مع كونه يفهم الأولى؟
وأنا إنما أقول هذا تنزلا، وإلا فإن أغلب جمهور هؤلاء الدعاة ليسوا من الأميين، بل هم في غالب الأحيان متعلمون، ولو إلى حد أدنى يمكنهم من فهم الكلام العربي الميسر.
فإن قيل: القوم متعلمون، ولكنهم متغربون، تربوا في أحضان الثقافة الأمريكية، أو رضعوا لبان الفرنكفونية، فلا سبيل إلى مخاطبتهم بالعربية.
فالجواب: المتغربون لا يفهمون (أو يتعمدون ألا يفهموا) عامية ولا فصحى، وحق هؤلاء إن أردت التواصل معهم أن تلبس عباءة موليير، أو ترتدي سربال شكسبير لتخاطبهم بلسانهم، الذي لا يرفعون بغيره رأسا. وإنك – لو فعلت – لن تجدني منكرا ولا منتقدا.
ثم إن موضوع الدرس يكون في أحيان كثيرة غير مناسب للعوام، بل هو موجه للمثقفين عموما، أو إلى المنتسبين للتيار الإسلامي خصوصا، بل قد يكون موجها لنخبة مخصوصة منهم، وهو مع ذلك بالعامية!
فأين المصلحة في ذلك؟
يقولون: نحن بهذا نصلح الشباب، ونعالج انحرافاتهم.
نقول: لعل .. ولكنكم تنزلون إلى مستواهم بدلا من أن ترقوهم إلى مستواكم. وإذا استمر الأمر على هذا، فإنه يوشك أن تستووا معهم، فيستقر الجميع في درك الجهل، بدلا من أن ترتفعوا أجمعين إلى مراقي العلم.
فإن قلت: وهل هذا النزول ممكن، ولو افتراضا؟
فالجواب: نعم، فإن العربية إنما تكتسب بالممارسة، ويحافظ على رونقها بالممارسة أيضا. وإن من يترخص بالإكثار من الكلام بالعامية، سيأتي عليه زمان إذا أراد فيه أن يتكلم بالفصحى وجد اللحن يسابقه إلى تعبيراته، والخطأ يلاحقه في تراكيبه. فيضطر حينئذ إلى الرجوع إلى العامية ''المحبوبة'' حيث لا يلحنه أحد، وحيث هو مالك زمام كلامه، يقول ما يشاء، كما يشاء!
فإن قال قائل: إن العامية تتيح لنا يسرا في التعبير لا تتيحه الفصحى، التي تتميز بصرامة قواعدها، ووعورة مسالكها. ونحن محتاجون للانطلاق في التعبير، دون قيد تفرضه علينا هذه القواعد، ولا رهبة من أن تتسلط على رقابنا أسنّة التخطئة.
فإننا نقول: إذن فالعيب فيك لأنك تصدرت قبل أن تتأهل، ولا تأهل في العلم بدون علم العربية، باتفاق من يعتد بخلافه ووفاقه.
ولا تغتر – يا صاحبي - بما حصلته من معلومات، إن لم تكن قبل ذلك قد حصلت طرفا صالحا من علوم العربية، فإنها الأساس الذي يبنى عليه هيكل العلوم الشرعية كلها. وكل بناء على غير أساس يوشك أن ينهدم.
وهل أُتي أهل البدعة قديما إلا من عُجمتهم (وقديما قال أبو عمرو لعمرو: مِن العجمة أتيت، في قصة مشهورة، تراجع في مظانها)، وهل العجمة إلا ما أنت فيه؟ أم تحسب العجمة في النسب لا في اللسان؟
وقد كان الطفل في مدارسنا العتيقة يعَلّم القرآن ثم العربية. بل قال بعض العلماء بتعليم العربية قبل القرآن، لأنها أساس فهمه.
وهؤلاء علماؤنا في تاريخ هذه الأمة العظيم، لا يتخصصون في الحديث أو التوحيد أو الفقه، إلا بعد أن يكونوا قد تعلموا علوم العربية، وأتقنوا منها ما لا بد من إتقانه.
أما الآن، فصرت لا تستنكر أن ترى عالما أو داعية، يشتغل بالحديث أو يتصدر للفتوى، وهو لا يستطيع أن يعرب جملة، ولا يعرف المقياس الصرفي لكلمة. وإذا قرأ في كتاب من كتب التراث، في التفسير أو شرح الحديث أو الفقه، وجاء ذكر دقيقة من دقائق العربية – وما أكثر ذلك في كتب التراث -، لوى وجهه، وانصرف عنها، كأن المخاطب بذلك غيره، وكأنها من ترف العلم، وفضلات المعارف.
فإلى أين نحن صائرون، أيها الغيورون على العلم والدين؟
ثم إن هذا الباب الذي فتح في ميدان الخطابة والتدريس، سيفتح عما قريب في ميدان الكتابة. وهذه بوادره قد ظهرت في كتابات بعض طلبة العلم في بعض المنتديات العلمية المتخصصة. ولو أنني كتبت هذا المقال بلهجتي العامية التي نشأت عليها، فمن سيفهم عني ما أقوله، من أحبابي من أهل المشرق الإسلامي؟
فتخيل معي يا صاحبي ما سيؤول إليه أمرنا، إن لم نتدارك الأمر قريبا.
ونحن إذا استمررنا في هذه السبيل المظلمة، فسيأتي الزمان الذي يموت فيه الذوق العربي، وتستعجم التراكيب الفصيحة على الناس، ويفقد الطلبة – فضلا عمن دونهم – الملكة اللغوية، التي تربطهم بالقرآن والسنة، وتراث الأمة.
إني لأقرأ في بعض الأحيان قصة طريفة في بعض كتب الأدب القديم، فيشتد منها ضحكي. فأجرب أن أشارك فيها بعض إخواني، فإذا هو الوجوم والاستغراب، كأنني ألقيت عليهم مرثية أو خاطبتهم بموعظة!
ويحدث لي أن أقرأ أيضا تركيبا مزهرا للجاحظ، أو بيانا مشرقا للتوحيدي، أو لعبة لفظية راقية للقاضي الفاضل (هذا الذي هدمنا أدبه بدعوى الإفراط في الصنعة اللفظية، ثم لم نأت بما يعوضه. بل صرنا: لا لفظ ولا معنى!)، فأكاد أطير من مقعدي من شدة الطرب، وأبحث – قريبا مني - عمن يشاركني سعادتي، من الطلبة الملتزمين بالشرع، والمنتسبين إلى طلب العلم، فألتاع من حر الغربة؛ مع أنني في عرف أهل العربية متطفل أعجمي، لكن كم من أعشى يكون غريبا في مملكة العميان!
إن الذوق العربي يندثر .. وإن الملكة اللغوية تنحسر .. وإن حمأة العامية تزحف .. فالحقوا هذه اللغة، بل الحقوا هذا الدين، فإنهما مرتبطان لا ينفكان، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

السبت، 23 أبريل 2011

في الشام ..


في الشام مجد قد مضى = ولنا به مجدٌ يلوحُ
نطقتْ بهذا مِن دما = ء الفخر ألسنةٌ تصيحُ
وكلامُها في مسمع الـ = تاريخِ مؤتلقٌ فصيحُ
في الشام أحزانٌ تمضُّ القلب .. أشلاءٌ .. قروحُ
في الشام آمال بأسرارٍ من الماضي تبوحُ
أمل من الآلام منبته، وبذرته الجروح
لكنه رغم المآسي راسخٌ، عال، فسيحُ
اليوم تبعث ميسلون، فعطرها أرج يفوح
اليوم نعتق شعبنا = ويضيئنا فجرٌ صبيحُ

الجمعة، 1 أبريل 2011

الحركات الشعبية العربية بين التنظير المتأخر والتطبيق السريع

بسم الله الرحمن الرحيم
قامت منذ أسابيع في أغلب البلاد العربية مظاهرات سلمية، وانتفاضات شعبية، وثورات مسلحة، بشكل مفاجئ، لم يستطع أحد من المحللين أن يتوقع حدوثه.
وقد أكدت هذه الأحداث المفاجئة أن التوقع في مجالات السياسة - كما يمارسه بعض من يعرفون بالمحللين والخبراء - لا يعدو في غالب الأمر أن يكون ضربا من الكهانة، أو نوعا من التخليط المتعمد لأكل أموال الإعلاميين بالباطل.
الفكر المتأخر:
ولكن هذه الأحداث السريعة المتلاحقة، أبرزت شيئا آخر أعظم خطرا، وقد تكون له عواقب وخيمة إن لم يتدارك قبل أن يفوت الأوان، وهو أن هذه الحركة الشعبية العارمة لا يواكبها جهد فكري شامل، يضع لها الإطار العام الذي تتحرك داخله، والوسائل التي تستعملها، والغايات التي تسعى إليها.
وقد يكون هذا مفهوما لأن الجهد الفكري يأخذ وقتا طويلا، ويطبعه من التردد والاختلاف، ما يجعل الحركة العملية غير مستعدة لانتظاره، حتى يحسم أمره في الخيارات المتاحة أمامه. أو كما يقول ديكارت: (أفعال الحياة غالبا ما لا تحتمل الإرجاء)) (.
نعم قد يكون مفهوما، ولكنه على كل حال ليس بالظاهرة الصحية، التي لا تستدعي النقد.
لست أنفي أن توجد فتاوى أو مقالات أو محاضرات متناثرة، تتعرض لبعض المباحث الجزئية بتحليل مختصر، يقارب المشكلات الآنية، دون الغوص وراء حلول الإشكالات الكبرى.
لكنها فوق ما يطبعها من الجزئية والتسطيح المعرفي، تعاني من تشرذم فكري خانق، بسبب التنوع الهائل بين بواعثها الدينية أو الحضارية أو المذهبية.
فيمكننا أن نقول: إن هذه المجهودات المتلعثمة تؤخر هلاك الأمة، وتسكن أوجاعها الحاضرة، ولكنها لا تغني عن الدواء الشافي بإذن الله.
إن خطورة هذا التأخر الفكري تكمن في أن المجال صار مفتوحا الآن أمام الشعوب لتفكر وتعمل من تلقاء نفسها.
والشعب مصطلح فلسفي عائم، غير منفك عن الحمولة السياسية. لكن الأكيد أن حركته – إن لم تكن منضبطة بحواجز فكرية واضحة المعالم – لا يمكن التكهن بمآلاتها، فقد تكون كالنهر القوي الذي لا تخرجه قوته عن مساره الطبيعي، وقد تصبح كالسيل الجارف الذي يأتي في طريقه على الأخضر واليابس.
والشعوب تستطيع – بسهولة فائقة – أن تعبر عن آلامها وآمالها، وتستطيع أن تُشحن - من ذاتها - في معارك مرحلية في مواجهة أعداء، أو لتحقيق مكاسب. ولكنها – بدون تردد - لا تستطيع لوحدها أن تصنع الإطار الحضاري العام الذي يحدد مسؤولياتها، ويوضح حقوقها، ويجعل حركتها عملَ بِناءٍ على أنقاض ما يهدم في طريقها، لا عمل هدم وحسب.
مخاطر في الطريق:
وإذا كان أهل الفكر غائبين أو مغيبين عن هذه التحديات الكبرى التي تخوض الشعوب غمارها، وإذا كانت الشعوب لا تستطيع أن تقوم بواجب أهل الفكر، فما الذي يمكن أن يقع في القريب العاجل؟
أخشى ما أخشاه أن يضطر مفكرونا في خضم هذه الأحداث المتسارعة، ورغبة منهم في لحاق الركب المتفلت منهم في أقرب وقت ممكن، إلى اللجوء إلى الأسهل والأقل كلفة، وهو استنساخ التجارب الغربية السابقة، دون مراعاة الفوارق الجوهرية التي تميز حضارتنا بثوابتها التي لا تقبل النقاش، عن حضارة الغرب التي تضع أغلب المبادئ في خانة المتغيرات.
وهذا الاستنساخ الأعمى لن يؤدي إلا إلى نتيجة واحدة، هي أزمة تبعية للغرب، تخنق أنفاس التحرر من جديد، وتكبت – على المدى البعيد – آمال الانطلاق الوليدة.
وسيكون أعظم مظاهر هذه الأزمة، تكرار بعض المشاهد السابقة، التي ألفناها في أمتنا منذ عقود، وطيلة مرحلة ما بعد الاستقلال، فيكون التغيير في الأسماء دون المسميات.
ومن هذه المشاهد تأجج نار التدافع – مرة أخرى - بين طائفتين وفكرتين:
- طائفة تنادي بالتبعية المطلقة العمياء للنموذج الغربي، لا لشيء إلا لأنها لا تعرف نموذجا غيره، بل لا تتصور إمكان وجود نموذج آخر. وهي فوق ذلك، لا تمتلك العدة المعرفية اللازمة للإبداع المنافي للتقليد.
- وطائفة أخرى ترفض هذه التبعية، لأنها اكتوت بنارها منذ عقود طويلة. وهي طائفة تريد تغيير حالة الجمود والقهر، لكن مع استلهام الموروث الديني والحضاري للأمة. على أنها لم تمارس - لحد الآن – جهدا تنظيريا كافيا، كذاك الذي مارسه من يسمون (فلاسفة التنوير) خلال القرن الثامن عشر، وكان زادا معرفيا جاهزا لتأطير الثورة الفرنسية.

دعوة للاستدراك:
وبعد هذا الرصد للواقع، ولما يمكن أن يتمخض عنه من المخاطر، هل فات الأوان لتدارك ما فات؟ وهل يمكن تلافي هذا الخطر المحدق الذي ألمحتُ إلى بعض معالمه في الفقرة السابقة؟
يمكنني أن أجيب - دون كبير تردد – أنْ لا. لم يفت الأوان، لأن هذه الحركات الشعبية تتسارع في إسقاط بعض الأنظمة المهترئة، ولكنها ستحتاج إلى وقت طويل لإقامة أنظمة بديلة، قادرة على تحقيق المصالح الدينية والدنيوية لشعوبنا.
لقد مر على الثورة الفرنسية مدة طويلة قبل أن تستقر حركتها في دولة آمنة تحقق المبادئ الأولى التي قامت الثورة من أجلها. ولو وقفت هذه الثورة عند احتلال سجن الباستيل، أو حتى عند إعدام لويس السادس عشر، لما كانت شيئا مذكورا. وإنما كانت قوتها كامنة في مقارعة مستمرة بين قوى التحرر وجحافل الماضي المظلم، لنحو قرن من الزمان، حدثت خلاله تراكمات معرفية، وتجارب عملية كثيرة، مكنت من قيام أصول الفكر الغربي المعاصر.
وأنا حين أعقد هذه المقارنة، لست أعتبر الثورة الفرنسية قدوة لنا، ولا نموذجا ينبغي احتذاؤه، فإن الفروق بيننا وبينهم كبيرة جدا، وتمس الجوهر الحضاري. ولكنني أقدم هذا المثال، لأبين أن ما حُقق الآن في بعض الدول العربية في بضعة أسابيع لا يعدو أن يكون تغييرا جزئيا، ذهب فيه نظام فاسد، بانتظار نظام أقل فسادا. أما التغيير الشامل الذي يضمن بآلياته المستقرة، عدم تكرار هذه النماذج السيئة من الأنظمة القهرية، فهو تغيير يحتاج إلى سنوات من المخاض. ولا يمكن أن يتحقق في بضعة أشهر إلا عند الحالمين.
وإذا أضفنا إلى هذا المعطى شيئا جوهريا آخر، وهو أن هذا التغيير ينبغي أن ينطلق من دين يقف كثير من قادة الغرب في وجه انطلاقه، وتحذر ''اللوبيات'' النافذة في الإعلام من تحرره من قمقمه، تبيّن لك صعوبة ما نحن مقبلون عليه فيما يستقبل من الأيام.
ويتأكد هذا أكثر، بكوننا نعيش في عصر انفتاح معرفي وإعلامي لا مثيل له. فلا يمكننا اليوم أن نغلق علينا أبوابنا، لنناقش حاضرنا ومستقبلنا، دون أن يكون معنا في هذا النقاش أجنبي – أو ممثل للأجنبي من بني جلدتنا. وهذا الواقع بعيد جدا عن واقع الثورة الفرنسية، حين كانت المعلومة تنتقل داخل البلد الواحد في أيام أو أسابيع، وبين البلدان المتباعدة في أشهر طويلة.
نعم واقعنا مختلف كثيرا عن واقع الثورة الفرنسية، ولكن الثابت أن الثورات التغييرية الكبرى لا بد أن تستمر وقتا طويلا. وهذا الوقت ينبغي أن يستغل في تدارك ما فات من التنظير المعرفي اللازم لكل حركة بشرية.

مجالات خصبة للبحث:
إن أمام أهل الفكر في الأمة إشكالات كثيرة، وضعتها هذه الحركات الشعبية المتسارعة. ولا يمكنني أن أحيط بعناوينها في هذا المقال. ولكن يمكن القول اختصارا بأن هذه الإشكالات تدور على ثلاثة محاور أساسية، ترتبط فيما بينها ارتباطا وثيقا للغاية:
أولها: تشخيص المرض الذي تعاني منه الأمة، وتوصيف حقيقة الأسباب التي جعلت ركبنا يتأخر عن اللحوق بالأمم الأخرى، مع أن لدينا من الإمكانات المادية والمعنوية ما يؤهلنا للمنافسة على مراتب الريادة في الكون.
أهي مشكلة معرفية شاملة؟ أهي قضية إزاحة الشريعة عن حياة الأفراد والجماعات؟ أهو الانفصام بين التصورات العقدية الموروثة والتحركات العملية المفروضة؟ أهو العامل الخارجي المتمثل في الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية للغرب؟ أهي الأنظمة الاستبدادية الفاسدة؟ أهو رضا الشعوب بأنظمتها الفاسدة لعقود طويلة؟ أهو غير ذلك كله مما لا سبيل إلى إحصائه، أم هو مزيج من ذلك كله، مع نِسَب في التأثير متفاوتة، تحتاج إلى ضبط وبيان؟
والثاني: توصيف الطريقة المثلى للتغيير، من جهة الصلاح والجدوى. أي ما يجوز شرعا من الطرق المقترحة وما لا يجوز، وما يثمر منها في الواقع وما لا يثمر.
وقد بينت الأحداث أن الطريقة التي تنجح في بعض البلدان، لا تؤتي أكلها في بلدان أخرى؛ وأن الثورة السلمية قد تتحول إلى ثورة عنيفة) (؛ وأن الحركة الداخلية قد تستنجد بالدعم الخارجي اضطرارا، إلى غير ذلك مما لا يحصى من الإشكالات التي تتعامل معها الشعوب الآن بمنطق الارتجال، والقرار المرحلي.
والثالث: تحديد الغايات الاستراتيجية التي تريدها الأمة بعد التغيير، لكي تتحد الشعارات، وتأتلف القلوب على مبادئ واضحة المعالم.
وتدخل في هذا المحور أصول عظمى، وقضايا مصيرية، ينبغي الحسم فيها، كقضية الديمقراطية بآلياتها العملية، وحمولتها النظرية؛ وقضية الدولة الدينية والدولة المدنية؛ وقضية تحكيم الشريعة بين الفورية والتدرج؛ وقضية المواطنة والأقليات الدينية؛ وقضايا الحريات وحقوق الإنسان؛ وغير ذلك.

إن المهمة شاقة وطويلة الأمد، ولكنها ضرورة من ضرورات الحياة الأساسية لهذه الأمة، التي تغيب عن وعيها دهورا، ثم تستيقظ في يوم من الأيام، وهي تحمل ما فيه الخلاص والرحمة للعالمين.

الاثنين، 25 أكتوبر 2010

دور المرأة المسلمة في الحياة

حدَّثني صاحبي فقال:
"أحبُّ أن أخبرَك عن حادثة وقعتْ لبعض معارفنا، لم أجدْ لها مسوِّغًا في عقلي، ولا قَبولاً في قلبي، ولقد وجدتُ مِن أثرها ضيقًا وكَدرًا، حتى أزمعتُ أن أعرضَها عليك، لعلَّك تُفيدني بشيءٍ من مصادرها ومواردها، فأتسلَّى بتحليل الواقعة عن تحمُّل وقْعِها على النَّفْس".

فقلتُ: "أخبرني بما بدا لك، فإنَّك لستَ أوَّل مَن يَعرض عليّ من غرائب المجتمع ما تطول منه فِكرتي، وتنشغل به مُهجتي".

فقال الرجل:
"هذه امرأة متديِّنة محجَّبة، نعرفها بالخير والالتزام بالشرْع، وهي فوق ذلك أستاذة جامعيَّة، وداعية إلى الله في المساجد والبيوت، ولها من الذريَّة ما تقرُّ به العين".

فبادرتُ قائلاً:
"هذا كله حَسَنٌ طيِّب، فأين الإشكال؟".

فقال:
"الإشكال - يا عزيزي - أنَّ هذه المرأة جاءتْها دعوةٌ للتدريس في بعض البلاد خلال الإجازة الصيفيَّة، فرحلتْ مع زوجها، وتركتِ الأبناء لأنفسهم، وفيهم مَن هو في سنِّ المراهقة، فكأنَّها قدَّمتْ مصلحة عملها خارج البيت على مصلحة عملها داخله".

فقلتُ:
"وهل يستقيم في ذهْنِ مسلمة عاقلة أن تعقِدَ المقارنة أصلاً بين عملها داخل البيت وخارجه، فضلاً عن أن تقدِّم ثاني العملين على أولهما؟!".

هذا ملخَّص الحادثة التي دفعتْني إلى كتابة هذه السطور.

إنَّ المرأة المسلمة تعرَّضتْ في مرحلة ما يُسمَّى: "بالاستعمار" إلى عملية تغريبية طاغية، جعلتْها تخرج قَسْرًا من أخلاقها الإسلامية، وتكتشفُ في كثير من الدهشة - التي سَرعان ما تحوَّلت إلى غبطة - بعض أحوال المرأة الغربية، وظنَّتِ المرأة المسلمة - ومَن وراءها من دُعاة التغريب - أن هذا الذي يأتي من الغرب هو أفضل ما تكون عليه المرأةُ؛ في أخلاقها وطباعها، وعلاقاتها داخل المجتمع.

وسارت المرأة على هذا التغريب ردحًا من الزمن؛ حتى تشكَّلتْ بسبب ذلك أجيال من النساء المنقطعات - كُليًّا أو جُزئيًّا - عن ماضيهنَّ الإسلامي المشْرِق، ولم يكنْ ذلك انقطاعًا في الظواهر والأفعال، وإنَّما عُجِنتْ نفوس النساء من جديد، وحُوِّرَتْ عقولهنَّ وقلوبهن، فتغيَّرت آمالهنَّ وطموحاتهن، وتبدَّل مفهومُهن للحياة، وتصوُّرُهنَّ لدور المرأة في الكون.

فلمَّا جاءت الصحوة الإسلامية تريد الإصلاح ما استطاعتْ إلى ذلك سبيلاً، حاولتْ أن تُرْجِعَ المرأة إلى مواقعها الأصلية، التي في ملازمتها صلاحها وصلاح مجتمعها؛ ونجحتْ - والحق يُقال - في كثيرٍ من ذلك، ولكنَّها لم تتمكَّن من الإصلاح الجَذْري لِمَا استقرَّ في النفوس، وانطوتْ عليه القلوب؛ ولذلك صِرْنا نرى مثل هذه النماذج الكثيرة، لنسوة صالحات ملتزمات بشريعة الله إجمالاً، ولكنهنَّ لا يَمْلكنَ من فقه الأولويَّات ما يُرَجِّحْنَ به مسؤولية بيوتهنَّ، وتكاليف أمومَتِهن، على ما يُسمَّى في حضارة الغرب: "الازدهار الذاتي"، أو "التنمية الشخصية".

فصِرْنا محتاجين إلى إعادة التركيز على كثيرٍ مما كنَّا نظنُّه من البديهيات التي لا نزاعَ فيها عند المتدينين؛ إذ كلامنا ليس عن عوام المسلمين، ولا عن طائفة المتغرِّبين في فِكرهم ووجدانهم، وإنَّما عن الذين يحملون همَّ هذا الدين، ويسعون إلى إحياء ما انْدرسَ من أمجاده، وإعادة تطبيقه في المجتمعات والدول.

لقد وقَعَ في العقود الأخيرة انحرافٌ خطير في مفاهيمنا المتعلقة بدور المرأة في الحياة، وقد بدأ الانحراف حين فتَحَ المتدينون أمام المرأة أبوابَ مشاركة الرجال خارج البيت، وما فَتِئ الشيطان يسوِّل خطوة بعد خطوة؛ حتى فُتِحتْ تلك الأبواب على مِصراعيها، واتَّسعَ الخَرقُ على الراقع.

ولقد كان الدعاة في أول الأمر يركِّزون على أنَّ هذا الخروج لا بُدَّ له من ضوابط ينبغي مراعاتها، وقيود لا بُدَّ من التزامها، لكن ما لبِثَ السيلُ الجارف أن أتى على الأخضر واليابس، فما عاد أحد - إلاَّ القليل - يكترثُ لتلك الضوابط والقيود، وصِرْنا نرى المرأة المتدينة مشارِكة في المجالس النيابيَّة والجماعيَّة، وعاملة في الجمعيَّات الثقافية والاجتماعية، ومحاضرة في الملتقيات والندوات، عدا عملها الذي تكون فيه طبيبة أو مهندسة أو أستاذة أو غير ذلك، مما لا ينضبط ولا ينحصر.

وأين بيتها في هذا كلِّه؟ وما نصيب زوجها وأولادها من هذه الجهود التي لا تَنِي؟!

أفتكون أمهاتُنا وجَدَّاتُنا الأُمِّيات المحافظات على وظيفة رَبَّة البيت أتمَّ المحافظة، أفضل حالاً من نساء العصر المتعلِّمات الملتزمات؟!

إنَّ على المرأة المسلمة أن تَعِي خطورة انجرافها وراء دُعاة التغريب؛ من حيث تدري أو لا تدري؛ وأنْ تفهمَ عظيمَ أَثَرِ انسياقها في تنفيذ المخططات الكَيديَّة التي ما فتئتْ تجتهد لإخراج المرأة من بيتها، وفَصْمِ علائقها بالمهمات التربويَّة العظيمة التي أناطها اللهُ بها.

إن خروجَ المرأة المسلمة من بيتها، وعدم اكتراثها بمهمتها الأصليَّة في الحياة، يؤدِّي - لا محالة - إلى تفسُّخ الأسرة التي هي نواة المجتمع، وإلى نشوء الأطفال - في غياب أُمَّهاتهم - على موائد يقدَّم لهم فيها غذاء فِكري مَسموم من القنوات التلفازيَّة، أو الشبكة العنكبوتيَّة، أو جهالات الخادمات، أو عبث الأصدقاء، أو نحو ذلك مما ضررُه أكبر من نفْعه، أو مما هو ضررٌ كلُّه.

نعم ليست المرأة المسلمة - كما يَدَّعِي علينا دُعاة التغريب - أداة مُجرَّدة للمتعة الجسديَّة في يد الرجل، ولا هي صورة جميلة أو دُمْيَة فاتنة يتباهى بها الزوج أمام عائلته وأقاربه، ولا هي آلة لتفريخ الأولاد وتكثير النَّسْل؛ ولكن ليستْ كذلك ندًّا للرجل، تَسْمُتُ سَمْتَه في كلِّ ما يأتي ويَذَر، وتجاريه في كلِّ مضمار، وتلاحقه في كلِّ مَيدان.

وإذا كانتْ بعض النسوة في زمن النبوَّة قد تاجَرْنَ أو مارَسْنَ الحِسبة أو خَرَجْنَ للجهاد، فما كان ذلك قاعدة مُطردة، ولا مَهيعًا لهنَّ مسلوكًا؛ وإنَّما كان مندرجًا في إطار الحالات الاستثنائية، التي يُتطلَّب لوقوعها الأسباب والدواعي، ولا تكون أصلاً يُستدلُّ به في عموم الأحوال، أمَّا الأصلُ المتَّبَع، فهو ما دلَّ عليه قوله - تعالى -: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾  [الأحزاب: 33]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((المرأةُ عَورَةٌ، فإذا خَرجَت اسْتَشْرَفَها الشيطَان))؛ أخرجه الترمذي، (3/ 476)، وقال: حديث حَسنٌ غريب.

الأسباب والحلول:
يمكنُنا أن نُجْمِلَ أسباب هذه الظاهرة التي صارتْ متفشِّية في صفوف النسوة المتدينات في الأمور الآتية:
أولاً: تأثير الحضارة الغربية الجارفة، والمرأة مَهْمَا كان تديُّنها لا يُمْكنها أن تبقى منعزلة كلَّ الانعزال عن المؤثِّرات الحضارية الآتية مما وراء البحار.

ثانيًا: أَثَر المدرسة وما تتلقَّى فتياتُنا فيها من مبادئ، بل منظومات قِيَمٍ متكاملة، توجِّه تفكيرهنَّ، وتحدِّد معالِمَ شخصيتهنَّ، ولا شَكَّ أنَّ أغلبَ المناهج التعليميَّة في العالَم الإسلامي لا تُراعي خصوصيَّة تعليم الفتاة المسلمة، وتنشئتها على غير ما ينشأ عليه الفتيان.

ثالثًا: تركيز كثيرٍ من الدُّعاة في خطابهم على المواقف الدينيَّة التي يُمكن أن يُسْتَدلَّ بها على المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات، وإغفالهم كثيرًا شَرْحَ دور المرأة المسلمة في بيتها، مع زوجها وأولادها، والغالب أنَّهم يفعلون ذلك حِرصًا منهم على إرضاء الغرب والمتأثرين بمناهجه؛ وذلك لمصلحة نشْر الدعوة في بقاع العالم فيما يَحْسبون.

رابعًا: ضَعف التأطير التربوي للنساء الملتزمات حديثًا، فقد يكتفي المؤطِّرون من أعضاء الجماعات الإسلامية العاملة - في أحايينَ كثيرة - بالتأطير السياسي، وشيءٍ من مبادئ تزكية النفوس، ويغفُلون الجوانبَ الاجتماعية الكبرى، التي ينبني عليها رُقِيُّ المجتمعات الإسلامية أو انحطاطها.

إذا علمتَ هذه الأسباب، فإنَّنا يمكن أن نقترَحَ بعض الحلول العملية، التي تضمنُ بمجموعها الخروج من هذا المأْزِق الاجتماعي الخطير:
فمن الحلول أن يتفطَّنَ المسؤولون على قطاع التربية والتعليم إلى ضرورة إنشاء مجالات تعليميَّة في المدارس، تكون خاصة بالفَتَيات، وهي التي يصطلح عليها بعض الناس بـ(التربية النسوية).

فإنَّ وجود مثل هذه المجالات كفيلٌ بأن يرسِّخ في أذهان فتياتنا معاني التفريق بين الجنسين؛ في الشخصية، والأدوار، والتطلُّعات.

ومن الحلول أيضًا أن يعكفَ الدُّعاة المصلحون في محاضراتهم وكتاباتهم على إحياء المفاهيم الإسلامية في مجال المرأة والأسرة، وإماطة ما غَشِيها من غبار التغريب في العقود الأخيرة.

وللدُّعاة مسؤولية كُبرى في تربية النساء على أهميَّة دورهنَّ داخل البيت، وتربيتهنَّ على أن الطموحَ الحقيقي للمرأة ليس في العمل الخارجي، ولا في المشاركة السياسيَّة، ولا في أنشطة الجمعيَّات، وإنَّما أولاً وأخيرًا في بيتها، مع زوجها وأولادها.

وعلى الدُّعاة أن يكونوا في هذا المجال معتدِّين بأنفسهم في مواجهة المتغرِّبين، فلا يكونوا في موقف الدفاع، ولا يرضوا بأن تُوضَعَ قِيَمُنا في قفص الاتِّهام.

ومن الحلول أخيرًا أن تُقْطَعَ العلائق الخبيثة التي تجرُّ فتياتنا إلى الانبهار بالغرب ومتابعته في كلِّ شيء، وخاصة الأفلام والمسلسلات التي تُظْهِر أنَّ المرأة الصالحة هي التي تعمل خارج بيتها، وتنافِس الرجال في الجليل والحقير؛ وأن رَبَّة البيت هي امرأة تافهة مسكينة، مُعرَّضة لكلِّ أنواع الاستغلال والإذلال.

حفظ الله نساءَنا وفتياتِنا من كلِّ تفسُّخ وانحلال.