السبت، 19 يونيو 2010

هم رجال ونحن رجال !

الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعدُ:
فإن للشيطان مداخلَ عجيبة ينفذ بها إلى بواطن النفس البشرية، ليصرفها عن حق، أو يرميها في حضن باطل.
وهو – عياذا بالله منه – منذ أن تبوأ مقعد عمل الغواية والإضلال، الذي وُكل به، يصد لكل نوع من النفوس ما يلائمها من أسباب الإعراض عن الحق، فيعد للصالحين غير ما يعد للطالحين، ويُغوي أهل العلم بغير ما يغوي به أهل الجهل، وهلم جرا.
إنها معركة قديمة، جمع لها إبليس جراميزه منذ زمن بعيد، ثم هو بعدُ ماض في مهمته لا يغره نصر يحصله، ولا تُكرثه هزيمة يتردى بها. أما خصومه في هذه المعركة، فما بين معد للأمر عدته، وجامع له أهبته؛ وبين غافل عما يراد به، مترد في الأحابيل التي ينصبها له عدوه.
ولستُ أعرف في الشراك التي ينصبها إبليس لأهل العلم، أشد نكاية فيهم، وأعظم أثرا في طبائع نفوسهم، من الغرور الذي يزينه لهم، فينتفخون به انتفاخ الكرة التي يلعب بها الصبي، لا تزال معه حالَ انتفاخها في محنة من الضرب بين الأرجل العابثة.
وأي محنة هي أعظم من محنة ذاك المنتفخ بغير ما ينفع، المزهو بغير ما يملك، المتشبع بما لم يعط، حين يتقدم الصفوف، ويتصدر المجالس، والعيون محدقة في سحنته البهية، والأسماع مصيخة إلى ما سيفوه به من الكلمات الشجية، والقلوب متعلقة بما سيأتي به من البراهين الجلية؛ وهو جالس أمام القوم، يخترع الكلام اختراعا، ويبتدع الأفكار ابتداعا، ويصول في حمى العلم ويجول، وهو يعلم في قرارة نفسه أنه أفرغ من فراغ، وأذل من فقع قرقرة بقاع !
هذه محنته ..
أما محنة السامعين – إن كانوا ممن بقي لهم بقية من فهم أو صبابة من فطنة – فكمحنة المسجون حين يلقى به في زنزانة مظلمة، فهو ينتظر موعد الخروج بأقصى ما يكون من الشوق !


***

وآفة الغرور لا تقوم في النفس إلا على ركن من الجهل ركين. فالعلم ينفي الغرور كما ينفي الكير خبث الحديد. وقد قيل قديما: العلم ثلاثة أشبار، من دخل في الشبر الأول: تكبر، ومن دخل في الشبر الثاني: تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث: علم أنه ما يعلم.
وقد أحسن من قال:
العلم حرب للفتى المتعالي = كالسيلِ حرب للمكان العالي
فالعلم والكبر ندّان لا يجتمعان، وما دخل العلم قلبا إلا خرج منه من الكبر بمقدار ما دخل من العلم.
والسبب في التعارض بين هذين واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار. فإن العلم يُري صاحبه من أحوال العلماء السابقين، وسعة دائرة علومهم، وعجيب دقة فهومهم، ما يجعله ينزل من برجه الذي كان يتأهب للصعود عليه، ويحثه على ملازمة منزلته التي تلائمه حقا، وحفظ منزلة هؤلاء العلماء المتقدمين، كما يكون البقل في أصول النخل الطوال.
وإن العلم أيضا ليتشعب بصاحبه، فلا يكاد يتقن فرعا حتى يعرض له غيره، ولا يكاد يفهم أصلا حتى يواجهه سواه. ولا يزال متنقلا في حياض العلم، من ساقية إلى نهر، ومن نهر إلى بحر، حتى يوقن أن إدراك الغاية القصوى من هذا العلم الذي هو بصدده، حلم لا سبيل إليه؛ وإنما قصاراه السير في الطريق، وجمع ما أمكنه من الثمار.
فكيف يغتر بعد ذلك من خاض هذا الخضم؟
وما أشبه حال المتعلم بحال المغامر الذي يتلمس سبيله في وسط غابة كثيرة الأشجار، ملتفة النباتات، وبيده مدية كبيرة يفتح بها الطريق أمامه. لكنه لا يقطع غصنا إلا ظهرت أمامه أغصان لا تتناهى كثرة، فمتى يقول إنه وصل غايته؟ !

***

والغرور يحمل صاحبه على وقف مسيرة التعلم، والاكتفاء بما حصله من العلم – ولو كان قليلا.
وإذا كان – بحسب ما يدعيه – قد وصل إلى هذه المرتبة العلمية المنيفة، وتسنم هذه المكانة الفكرية الباذخة، ففيم يجهد نفسه في التحصيل العلمي، الذي لا يليق بزعمه إلا بالمبتدئين؟
وكم تضيع على هؤلاء المغرورين من العلوم والمعارف !
وأعرف منهم من لا يفتح الكتاب إلا لماما، ولا يثني ركبته في مجلس علم مطلقا؛ وهو بعدُ دائم التنقل من محاضرة إلى ندوة، ومن برنامج إذاعي إلى لقاء بقناة تلفزية، يجتر الكلام نفسه، ويتلفظ معادا من القول مكرورا.
فهي دائرة مغلقة إذن: جهل يجر إلى غرور، وغرور يجر إلى جهل !
ثم إن الغرور يقطع على صاحبه طريق الأوبة إلى الحق، ويهون عليه الاستمرار في الباطل، مع علمه بأنه باطل. أما المتواضع الذي يعرف قدر نفسه، فأسهل شيء عليه أن يقول: أخطأتُ في كذا، وأنا عنه راجع من ساعتي هذه !

***

والغرور عند المنتسبين إلى العلم ليس من مبتدعات هذا العصر الذي نحن فيه، فقد كان موجودا – على قلة – عند بعض المتقدمين. ودليل وجوده كثرة إنكار العلماء الربانيين على أهله، وما كانوا لينكروا أمرا لا وجود له في الواقع.
لكن ما أتى هذا العصر حتى اتسع الخرق على الراقع، فازداد الغرور بمقدار ما نقص من العلم.
وأكثر ما ضخم هذه الظاهرة في عصرنا، تلك الشهادات الأكاديمية التي تمجّها الجامعات الإسلامية (الدكتوراه فما دونها). وهي شهادات تحمل – في الغالب - على كثير من الكبر، وتصرف عن كثير من التعلم.
وصاحب الشهادة الجامعية – إن كان لم يأخذ علمَه إلا من الجامعة - من أسرع الناس تساقطا في مهاوي الغرور، لا ينقذه منه إلا أن يبادر إلى نهل العلم من مصادره الأصيلة. لكنه إن لم يفعل، غلبه ما شحن به ذهنه خلال دراسته الجامعية من السطحية التي تلامس عناوين المسائل، ولا تخوض في غمار التفصيلات العلمية الدقيقة، التي تنمي الملكة العلمية الراسخة.
والنتيجة الحتمية لهذه السطحية في التحمل، أن الطالب – الذي سرعان ما صار أستاذا يشار إليه بالبنان – يتعامل مع كل المسائل العلمية التي تواجهه بسطحية في الأداء أيضا.
فإن أشكل عليه أمر فزع إلى المقاصد الكبرى، والمصالح العامة، وإلى نتف من هنا وهناك، وشذرات عامة يجمّعها من كل حدب وصوب، وينثرها كيفما اتفق.

***

وصاحبنا المغرور له في كل فن حيلة يجعلها شعارا لكلامه ودثارا، فتغنيه عن كثير من العلم، وتظهره – عند الأغمار والعوام - في صورة المحقق المتمكن !
فإذا أعياه تفسير آية من كتاب الله تعالى، لم يعسر عليه أن يقول: يبدو لي أن المعنى كذا. فإن ظهر أنه خالف إجماع المفسرين قال بلهجة الواثق: كلام المفسرين ليس وحيا منزلا، وقد جدّت أمور وأوضاع، فلنا أن نقول كما قالوا، ونرى كما رأوا !
وإذا خالف هواه حديثا من أحاديث البشير النذير صلى الله عليه وسلم، فزع إلى تضعيفه بكلام تستحي العنكبوت أن تنسج مثله. ثم احتمى ببعض الدعاوى العريضة التي تجعل له مخرجا من الدهليز الذي دلف إليه.
وإذا اعترضته مسألة فقهية أو فتوى شرعية، أغناه عن تكلّف بحثها تفصيلا، الاتكاء على مقاصد الشريعة كما يفهمها، ونظرية المصالح والمفاسد كما يتصورها. وإن عصمه الله بشيء من الورع، تفكر قليلا، ثم قال بلهجة من أحاط بالمسألة من كل جوانبها: (في المسألة خلاف !).
وإذا أشكلت عليه دقائق علم النحو والصرف، قال: (ما لنا وللخليل وسيبويه؟ ! فلنرجع إلى الظواهر اللغوية الأصلية لنجدد هذا العلم ..). فكأن نحاة العربية كانوا يرجعون في تأصيل قواعدهم إلى دراسة ظواهر الألمانية أو الروسية !
وإذا صعب عليه فهم مسألة بلاغية، قال: (اتركونا من عجمة المتأخرين، وأرجعونا إلى فصاحة الأوائل). ثم ما هو من أهل الأولى ولا الثانية !
وإذا عسر عليه شيء من علم العروض والقوافي، قال: (ما أثقله من علم ! وما أسمجها من مصطلحات ! علينا تجديد هذا الفن، وإلغاء تعقيدات الخليل ومن شايعه.. ).
وهكذا قل في سائر الفنون: دعاوى ووصايا تخفي جهلا وكبرا.

***

هكذا حال كثير من هؤلاء المتكبرين المنتسبين إلى العلوم الشرعية.
دخلوا الميدان من غير بابه، فاختلطت عليهم الأمور، وصاروا يخبطون في العلم خبط عشواء. وقصارى جهد الواحد منهم أن يقول:
- لست ملزما بقول الإمام الفلاني ..
- ولي عقل حر، يمكنني من أن آخذ ما أشاء، وأدع ما أشاء ..
- ولا تحجر على تفكيري، فلست من المقلدين

وإذا ذكر أمامه السلف والأئمة المتقدمون قال:
(هم رجال .. ونحن رجال).
ونحن نقول:
أما الأولى، فلا شك في صحتها ..
وأما الثانية، فما أبعدها عن الصواب.

البشير عصام
7 رجب 1431

السبت، 5 يونيو 2010

هذه قضيتنا .. (عن هجوم جيش اليهود على قافلة الحرية)

(المقال منشور على شبكة الألوكة، على الرابط: هذه قضيتنا)
بسم الله الرحمن الرحيم
خرج العشرات من شجعان المسلمين، ومعهم كثير من محبي الحرية، وأعداء الظلم، في رحلة بحرية، منطلقة من تركيا، وغايتها أن توصل إلى الشعب الفلسطيني المجاهد على أرض غزة، من المؤن الغذائية والطبية، ما يرفع عنه – ولو إلى حين – شيئا من لذع الجوع، ومرارة الفاقة، وهوان العزلة.
وكان أن تصدت لهذه القافلة البحرية المسالمة، شراذم من عساكر العدو الصهيوني الأثيم، فاستطالوا عليهم كما تستطيل جماعة الذئاب على الفريسة المنعزلة عن أهلها، فتتناولها بأنيابها ومخالبها، وهي آمنة من الرقيب أو العدو الأمنَ كله، مطمئنة إلى مودة الصديق الذي لا يسأل في النائبات برهانا، الطمأنينةَ كلها !
فكان أن ارتفع من أهل القافلة أقوامٌ، فعدوا من القتلى .. وأقوام آخرون احتسبوا من الجرحى. نسأل الله تعالى أن يتقبل القتلى عنده من الشهداء، وأن يعجل بشفاء الجرحى، ويردهم إلى أهلهم، على أفضل ما يحبون.
ولم يكن في كل ما وقع جديدٌ في أمور الوقائع السياسية، ولا مبتدَع من أحوال هذا الصراع الأبدي بين الحق والباطل، ولا مستحدث في خصوص هذا الصراع بين المسلمين واليهود، مذ أشرقت على الناس شمس الإسلام.
أما في وقائع السياسة، فلأنها تاريخ مستمر من الصراع بين الإرادات المتفاوتة في ما يعضدها من قوة مادية. ثم إن الغلبة تكون دائما للإرادة التي تستطيع أن تنتقل من ضيق الكلمة، إلى فسحة العمل؛ ومن ضوضاء الشعارات البراقة، إلى سكون الفعل الهادف. وهذا الذي فعله اليهود في هذا الزمن الذي نتلظى بأواره .. وهذا الذي أغفلنا أن نطبقه – جهلا من بعضنا وتعمدا من الآخرين - وجرينا لاهثين وراء الكلام المجرد، وأحلام العدالة الدولية، وسراب القانون الإنساني المنصف.
والحق الذي لا مرية فيه، أن العدل لا تقوم أركانه، وأن الحقوق لا ترد إلى أصحابها، إلا بمجالدة ومدافعة، وأن ما سوى ذلك حِلم مصطنع:

ولا خير في حلم إذا لم يكن له = بوادر تحمي صفوه أن يتكدرا
وأما في الصراع بين الحق والباطل، فلأن الباطل لا يمكن أن يرضى بعتبة يقف عندها ولا يتجاوزها، وإنما هو كالدود الذي ينخر الجثة الهامدة، لا يتوقف إلا عندما يحيلها عدما، أو كالعدم.
وإذا استكان الحق، وترك مناجزة الباطل، وأهمل أن يطلبه في مواطنه ليقارعه وينتصف منه، لم يلبث أن يجد نفسه في موقف المدافع، الذي يستطيل عليه الباطل، ويذيقه صنوف الهوان.
كان المدافعون – من أهل الإسلام ومن التحق بصفهم – لا يرضون باليهود دولةً ولا كيانا، ويناوئون هؤلاء الدخلاء عسكريا وسياسيا وإعلاميا، وعلى كل ميدان، يصح فيه رفع راية المجاهدة والمغالبة.
ثم فاوضوا – أو قل: فاوض بعضهم، وأنكر بعضهم، وسكت الأكثرون - فتحولت القضية في بعض مظاهرها إلى قضية إنسانية محضة: كسر الحصار عن غزة، ومعالجة المرضى، وإنقاذ الشيوخ والأطفال.
ثم ما رضي العدو حتى جعل المسلمين – وهم في قضيتهم الإنسانية الصغيرة هذه - لا يصلون أيضا إلى ما يودون من الانتصار. بل هو يراوحون مكانهم، يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى، مع أن المطلب – بقياس الدين والسياسة معا – صغير جدا، لا يصلح أن يكون هدفا مرحليا، فضلا عن غاية عظمى.
وأما في خصوص الصراع بين المسلمين واليهود، فلأن اليهود جبلوا على الجبن، طبعا فيهم مستحكما، لا يرفعه عنهم دولة قائمة، ولا سلاح ذري، ولا دعم معنوي تغدقه عليهم دول النصرانية المتجبرة. بهذا الجبن عُرفوا مذ كانوا، فحكاه عنهم القرآن في غير موضع، ومن أصدق من الله قيلا !
ومن طبع الجبان أن ينازل الضعفاء، ويتجبر عليهم، ليرضي نفسه المهزوزة، ويثبت قلبه المرتعش، بانتصار – ولو أن يكون وهميا.
***
لم يحدث جديد إذن ..
العدو الصهيوني يتجبر..
وقادة العالم بين متعاطف يستخفي بتعاطفه، ومستنكر يستعلن بإنكاره ..
وحكام المسلمين يستنكرون في كلام هو بالصمت أشبه ..
وشعوب الأمة تتحرق من شدة الغيظ، وتتلوى من تباريح الشوق إلى ميادين العمل المثمر، ثم لا تجد من العمل الممكن غير الكلام، الذي يبدأ صراخا، ثم يتحول – بسبب من اليأس أو السلوّ أو منهما معا - إلى حشرجة خافتة.
لا جديد؟
بلى !
في الحادثة جديد، أو قل: شيء يريد كثير من الناس أن يكون جديدا ..
سئمت الشعوب المسلمة من توالي الجديدين بسلسلة رتيبة من وقائع الذل وأحداث الاستكانة، فتطلعت إلى جديد ينقذها من هذه الرتابة الخانقة. وكان ذلك الجديد أملا غامرا في قائد، يسوس الأمة إلى سابق مجدها. وكان ذلك القائد في – خيال الشعوب – هو حكام دولة تركيا.
وانطلقت الشعوب تمجد هؤلاء الحكام، وتهتف لهم، وتتمثل فيهم غصن النجاة الذي سيخرج الأمة من أوحال الهزيمة التي تردت فيها.
بل قارن بعض الناس بسرعة عجيبة، بين حكام تركيا اليوم، وبين دولة العثمانيين التي قادت الأمة قرونا متطاولة، وتقدمت جحافل الجهاد الإسلامي في قلب أوروبا الصليبية !
ولست بطبعي متشائما. وكيف يجد التشاؤم سبيله إلى قلب عرف وعد الله الذي لا يتخلف، وتدبر سنن الكون التي لا تتغير؟ !
وأنا أيضا لست ممن يهوى مفارقة جماعة الناس، لا لشيء إلا لحب المخالفة، على قاعدة (خالف تعرف).
ولكنني لست ممن ينبهر بالكلام العاطفي، ولا أنا ممن يغتر بالشعارات الزائفة. وأعرف - من طول تقليب النظر في أحوال السياسة وأهلها – كيف أميز بين الكلام الذي هو كلام، والكلام الذي تأتي الأعمال على إثره سراعا.
وإذا تأملنا ما فعله قادة تركيا اليوم، وجدناهم أفضل من غيرهم في خصوص موقفهم هذا. ولكن ماذا وراء ذلك؟
لا ينبغي أن ننسى – وآفة شعوبنا ضعف الذاكرة إلى حد التبلد – أن هؤلاء القادة كانوا إلى أمد قريب جدا يصافحون قادة اليهود الغاصبين، ويضاحكونهم، ويتبادلون الزيارات الودية معهم.
ولا ينبغي أن ننسى أن العلاقات الدبلوماسية بين تركيا ودولة العدو قائمة مستقرة، مع شيء من التوتر، والمشاحنة اللفظية، توجد نظائره بين كثير من الدول الحليفة، التي تجمع بينها مصالح سياسية واقتصادية كبرى.
ولا ينبغي أن ننسى حقيقة هذا الموقف التركي الذي ارتفع به قادة هذا البلد – في طرفة عين - إلى مصاف المنقذين والأبطال: دولة توجه قافلة إنسانية، فيتعرض لها جنود دولة أخرى في المياه الدولية، ويقتلون ويجرحون العشرات من رعاياها، ثم يكون ردها خطابا حماسيا، واستدعاء للسفير، وتهديدا بقطع العلاقات الدبلوماسية !
أهكذا كانت ردود الخلفاء العثمانيين، الذين يشبه قادة تركيا اليوم بهم؟
ثم لا ينبغي أن ننسى الأخطر، الذي قد يضيع في هذا البحر المتلاطم من الكلمات والخطابات والشعارات.
الأخطر أن قادة تركيا إنما يتحدثون عن القضية من جانبها الإنساني فقط. فقضية فلسطين محجّمة عندهم في خصوص مأساة غزة، وضرورة كسر الحصار الظالم المفروض على أهلها. وتحجيم القضية في هذا الجانب الإنساني المحض لا ينازع فيه كثيرون ممن لا يحملون هم القضية الفلسطينية أصلا، من أهل أوروبا وأمريكا، ومن دعاة حقوق الإنسان، ومحبي الحرية في كل مكان.
جميل أن يقال: (لن ننسى غزة !).
ولكن الأجمل أن يقال: (لن ننسى القدس !)، بل (لن ننسى حيفا ولا يافا !). وبعبارة أخرى أكثر وضوحا: (لسنا نقبل بوجود شيء اسمه دولة إسرائيل، فضلا عن أن نفاوض هذه الدولة اللقيطة، فضلا عن أن نستجديهم أو نطالبهم – والفرق عند التحقيق يسير - ليرفعوا الحصار الاقتصادي عن أهل غزة).
بل الأجمل من ذلك كله، فعل تغني شرارته الملتهبة عن كثير من القول.

***

نعم، إن من الحق أن يقال إن تركيا عاشت عقودا تحت حكم علماني هو من أعتى ما وجد في هذا العصر تعصبا للعلمانية وحضارة الغرب الكافر، ومروقا من الإسلام وقيم الشرق. ومن الحق أيضا أن الخروج من هذا السرداب المظلم لا يكون إلا بكثير من الجهد، ووابل من التضحيات الجسام. ومن الحق أخيرا أن قادة تركيا الجدد قد خطوا في طريق الخروج من هذا السرداب، بعض الخطوات الخجولة التي تفتح بابا للأمل، في مستقبل زاهر.
أما أن تقتنع الشعوب أن هذه المواقف المعلنة خير ما يتوقع، وأفضل ما يكون، فوهم عريض، وترد في مهاوي القناعة بالذل، واستمراء الهوان.
وأما أن يقارن هؤلاء القادة من أصحاب الخطابات والكلمات، بالخلفاء العثمانيين، الذي غرسوا أعلام الجهاد في قلب الصليبية الحاقدة، فتطفيف عجيب في الموازين، وقلب خطير للحقائق، وتسمية للأشياء بغير أسمائها، إلا أن يكون ذلك على طريقة العرب حين يسمون اللديغ سليما .. تفاؤلا.

***

ليس يهمني كثيرا أن أحلل الموقف التركي، ولا أن أتنبأ بما سيؤول إليه فيما يستقبل من أيام الناس. فهذه أمور سياسية آنية، قد تتمخض عن العظيم، وقد ينتج عنها الحقير، بل قد تمحى وتزول، فكأنها ما كانت قط !
ولكن الذي يحزنني كثيرا، بل يملأ كياني كله قلقا وألما، أنني أرى الأمة لا تزال – بعد أحقاب متطاولة – غير قادرة على معرفة حقيقة غاياتها، وطبيعة ما يطلب منها للوصول إلى تلك الغايات.
ويحزنني أنها لا تمتلك – إلا عند قلة قليلة من أفرادها – الميزان العقدي الصارم الذي يوزن به الأشخاص، وتميز به الجماعات، وتمحص به الأفكار، فتطرح العقائد الفاسدة، والتصورات الفكرية المنحرفة، بدلا من أن ترفع إلى درجات القيادة والريادة.
ويحزنني أنها – بعد أن لدغت مرارا من جحر النفاق السياسي – لا تزال مستعدة للانخداع مرة ومرات، بل كلما نعق ناعق، أو صدح صادح.
ويحزنني أنها لا تقرأ تاريخها، ولا تاريخ الآخرين، وأنها إذا قرأت سرعان ما تصيبها آفة النسيان، فتقتلع من القلوب والأذهان جذور الفهم، وتكسر أدوات التحليل المنطقي السليم.
ويحزنني أنني أسمع عن غزة، وعن حصار غزة .. ولا أسمع – إلا لماما – عن محاولات تهويد القدس، وتخريب الأقصى .. ولا أسمع قط عن وجوب تحرير فلسطين كلها، من النهر إلى البحر.
هذه قضيتنا، فلا تنسوها ..