الاثنين، 25 أكتوبر 2010

دور المرأة المسلمة في الحياة

حدَّثني صاحبي فقال:
"أحبُّ أن أخبرَك عن حادثة وقعتْ لبعض معارفنا، لم أجدْ لها مسوِّغًا في عقلي، ولا قَبولاً في قلبي، ولقد وجدتُ مِن أثرها ضيقًا وكَدرًا، حتى أزمعتُ أن أعرضَها عليك، لعلَّك تُفيدني بشيءٍ من مصادرها ومواردها، فأتسلَّى بتحليل الواقعة عن تحمُّل وقْعِها على النَّفْس".

فقلتُ: "أخبرني بما بدا لك، فإنَّك لستَ أوَّل مَن يَعرض عليّ من غرائب المجتمع ما تطول منه فِكرتي، وتنشغل به مُهجتي".

فقال الرجل:
"هذه امرأة متديِّنة محجَّبة، نعرفها بالخير والالتزام بالشرْع، وهي فوق ذلك أستاذة جامعيَّة، وداعية إلى الله في المساجد والبيوت، ولها من الذريَّة ما تقرُّ به العين".

فبادرتُ قائلاً:
"هذا كله حَسَنٌ طيِّب، فأين الإشكال؟".

فقال:
"الإشكال - يا عزيزي - أنَّ هذه المرأة جاءتْها دعوةٌ للتدريس في بعض البلاد خلال الإجازة الصيفيَّة، فرحلتْ مع زوجها، وتركتِ الأبناء لأنفسهم، وفيهم مَن هو في سنِّ المراهقة، فكأنَّها قدَّمتْ مصلحة عملها خارج البيت على مصلحة عملها داخله".

فقلتُ:
"وهل يستقيم في ذهْنِ مسلمة عاقلة أن تعقِدَ المقارنة أصلاً بين عملها داخل البيت وخارجه، فضلاً عن أن تقدِّم ثاني العملين على أولهما؟!".

هذا ملخَّص الحادثة التي دفعتْني إلى كتابة هذه السطور.

إنَّ المرأة المسلمة تعرَّضتْ في مرحلة ما يُسمَّى: "بالاستعمار" إلى عملية تغريبية طاغية، جعلتْها تخرج قَسْرًا من أخلاقها الإسلامية، وتكتشفُ في كثير من الدهشة - التي سَرعان ما تحوَّلت إلى غبطة - بعض أحوال المرأة الغربية، وظنَّتِ المرأة المسلمة - ومَن وراءها من دُعاة التغريب - أن هذا الذي يأتي من الغرب هو أفضل ما تكون عليه المرأةُ؛ في أخلاقها وطباعها، وعلاقاتها داخل المجتمع.

وسارت المرأة على هذا التغريب ردحًا من الزمن؛ حتى تشكَّلتْ بسبب ذلك أجيال من النساء المنقطعات - كُليًّا أو جُزئيًّا - عن ماضيهنَّ الإسلامي المشْرِق، ولم يكنْ ذلك انقطاعًا في الظواهر والأفعال، وإنَّما عُجِنتْ نفوس النساء من جديد، وحُوِّرَتْ عقولهنَّ وقلوبهن، فتغيَّرت آمالهنَّ وطموحاتهن، وتبدَّل مفهومُهن للحياة، وتصوُّرُهنَّ لدور المرأة في الكون.

فلمَّا جاءت الصحوة الإسلامية تريد الإصلاح ما استطاعتْ إلى ذلك سبيلاً، حاولتْ أن تُرْجِعَ المرأة إلى مواقعها الأصلية، التي في ملازمتها صلاحها وصلاح مجتمعها؛ ونجحتْ - والحق يُقال - في كثيرٍ من ذلك، ولكنَّها لم تتمكَّن من الإصلاح الجَذْري لِمَا استقرَّ في النفوس، وانطوتْ عليه القلوب؛ ولذلك صِرْنا نرى مثل هذه النماذج الكثيرة، لنسوة صالحات ملتزمات بشريعة الله إجمالاً، ولكنهنَّ لا يَمْلكنَ من فقه الأولويَّات ما يُرَجِّحْنَ به مسؤولية بيوتهنَّ، وتكاليف أمومَتِهن، على ما يُسمَّى في حضارة الغرب: "الازدهار الذاتي"، أو "التنمية الشخصية".

فصِرْنا محتاجين إلى إعادة التركيز على كثيرٍ مما كنَّا نظنُّه من البديهيات التي لا نزاعَ فيها عند المتدينين؛ إذ كلامنا ليس عن عوام المسلمين، ولا عن طائفة المتغرِّبين في فِكرهم ووجدانهم، وإنَّما عن الذين يحملون همَّ هذا الدين، ويسعون إلى إحياء ما انْدرسَ من أمجاده، وإعادة تطبيقه في المجتمعات والدول.

لقد وقَعَ في العقود الأخيرة انحرافٌ خطير في مفاهيمنا المتعلقة بدور المرأة في الحياة، وقد بدأ الانحراف حين فتَحَ المتدينون أمام المرأة أبوابَ مشاركة الرجال خارج البيت، وما فَتِئ الشيطان يسوِّل خطوة بعد خطوة؛ حتى فُتِحتْ تلك الأبواب على مِصراعيها، واتَّسعَ الخَرقُ على الراقع.

ولقد كان الدعاة في أول الأمر يركِّزون على أنَّ هذا الخروج لا بُدَّ له من ضوابط ينبغي مراعاتها، وقيود لا بُدَّ من التزامها، لكن ما لبِثَ السيلُ الجارف أن أتى على الأخضر واليابس، فما عاد أحد - إلاَّ القليل - يكترثُ لتلك الضوابط والقيود، وصِرْنا نرى المرأة المتدينة مشارِكة في المجالس النيابيَّة والجماعيَّة، وعاملة في الجمعيَّات الثقافية والاجتماعية، ومحاضرة في الملتقيات والندوات، عدا عملها الذي تكون فيه طبيبة أو مهندسة أو أستاذة أو غير ذلك، مما لا ينضبط ولا ينحصر.

وأين بيتها في هذا كلِّه؟ وما نصيب زوجها وأولادها من هذه الجهود التي لا تَنِي؟!

أفتكون أمهاتُنا وجَدَّاتُنا الأُمِّيات المحافظات على وظيفة رَبَّة البيت أتمَّ المحافظة، أفضل حالاً من نساء العصر المتعلِّمات الملتزمات؟!

إنَّ على المرأة المسلمة أن تَعِي خطورة انجرافها وراء دُعاة التغريب؛ من حيث تدري أو لا تدري؛ وأنْ تفهمَ عظيمَ أَثَرِ انسياقها في تنفيذ المخططات الكَيديَّة التي ما فتئتْ تجتهد لإخراج المرأة من بيتها، وفَصْمِ علائقها بالمهمات التربويَّة العظيمة التي أناطها اللهُ بها.

إن خروجَ المرأة المسلمة من بيتها، وعدم اكتراثها بمهمتها الأصليَّة في الحياة، يؤدِّي - لا محالة - إلى تفسُّخ الأسرة التي هي نواة المجتمع، وإلى نشوء الأطفال - في غياب أُمَّهاتهم - على موائد يقدَّم لهم فيها غذاء فِكري مَسموم من القنوات التلفازيَّة، أو الشبكة العنكبوتيَّة، أو جهالات الخادمات، أو عبث الأصدقاء، أو نحو ذلك مما ضررُه أكبر من نفْعه، أو مما هو ضررٌ كلُّه.

نعم ليست المرأة المسلمة - كما يَدَّعِي علينا دُعاة التغريب - أداة مُجرَّدة للمتعة الجسديَّة في يد الرجل، ولا هي صورة جميلة أو دُمْيَة فاتنة يتباهى بها الزوج أمام عائلته وأقاربه، ولا هي آلة لتفريخ الأولاد وتكثير النَّسْل؛ ولكن ليستْ كذلك ندًّا للرجل، تَسْمُتُ سَمْتَه في كلِّ ما يأتي ويَذَر، وتجاريه في كلِّ مضمار، وتلاحقه في كلِّ مَيدان.

وإذا كانتْ بعض النسوة في زمن النبوَّة قد تاجَرْنَ أو مارَسْنَ الحِسبة أو خَرَجْنَ للجهاد، فما كان ذلك قاعدة مُطردة، ولا مَهيعًا لهنَّ مسلوكًا؛ وإنَّما كان مندرجًا في إطار الحالات الاستثنائية، التي يُتطلَّب لوقوعها الأسباب والدواعي، ولا تكون أصلاً يُستدلُّ به في عموم الأحوال، أمَّا الأصلُ المتَّبَع، فهو ما دلَّ عليه قوله - تعالى -: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾  [الأحزاب: 33]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((المرأةُ عَورَةٌ، فإذا خَرجَت اسْتَشْرَفَها الشيطَان))؛ أخرجه الترمذي، (3/ 476)، وقال: حديث حَسنٌ غريب.

الأسباب والحلول:
يمكنُنا أن نُجْمِلَ أسباب هذه الظاهرة التي صارتْ متفشِّية في صفوف النسوة المتدينات في الأمور الآتية:
أولاً: تأثير الحضارة الغربية الجارفة، والمرأة مَهْمَا كان تديُّنها لا يُمْكنها أن تبقى منعزلة كلَّ الانعزال عن المؤثِّرات الحضارية الآتية مما وراء البحار.

ثانيًا: أَثَر المدرسة وما تتلقَّى فتياتُنا فيها من مبادئ، بل منظومات قِيَمٍ متكاملة، توجِّه تفكيرهنَّ، وتحدِّد معالِمَ شخصيتهنَّ، ولا شَكَّ أنَّ أغلبَ المناهج التعليميَّة في العالَم الإسلامي لا تُراعي خصوصيَّة تعليم الفتاة المسلمة، وتنشئتها على غير ما ينشأ عليه الفتيان.

ثالثًا: تركيز كثيرٍ من الدُّعاة في خطابهم على المواقف الدينيَّة التي يُمكن أن يُسْتَدلَّ بها على المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات، وإغفالهم كثيرًا شَرْحَ دور المرأة المسلمة في بيتها، مع زوجها وأولادها، والغالب أنَّهم يفعلون ذلك حِرصًا منهم على إرضاء الغرب والمتأثرين بمناهجه؛ وذلك لمصلحة نشْر الدعوة في بقاع العالم فيما يَحْسبون.

رابعًا: ضَعف التأطير التربوي للنساء الملتزمات حديثًا، فقد يكتفي المؤطِّرون من أعضاء الجماعات الإسلامية العاملة - في أحايينَ كثيرة - بالتأطير السياسي، وشيءٍ من مبادئ تزكية النفوس، ويغفُلون الجوانبَ الاجتماعية الكبرى، التي ينبني عليها رُقِيُّ المجتمعات الإسلامية أو انحطاطها.

إذا علمتَ هذه الأسباب، فإنَّنا يمكن أن نقترَحَ بعض الحلول العملية، التي تضمنُ بمجموعها الخروج من هذا المأْزِق الاجتماعي الخطير:
فمن الحلول أن يتفطَّنَ المسؤولون على قطاع التربية والتعليم إلى ضرورة إنشاء مجالات تعليميَّة في المدارس، تكون خاصة بالفَتَيات، وهي التي يصطلح عليها بعض الناس بـ(التربية النسوية).

فإنَّ وجود مثل هذه المجالات كفيلٌ بأن يرسِّخ في أذهان فتياتنا معاني التفريق بين الجنسين؛ في الشخصية، والأدوار، والتطلُّعات.

ومن الحلول أيضًا أن يعكفَ الدُّعاة المصلحون في محاضراتهم وكتاباتهم على إحياء المفاهيم الإسلامية في مجال المرأة والأسرة، وإماطة ما غَشِيها من غبار التغريب في العقود الأخيرة.

وللدُّعاة مسؤولية كُبرى في تربية النساء على أهميَّة دورهنَّ داخل البيت، وتربيتهنَّ على أن الطموحَ الحقيقي للمرأة ليس في العمل الخارجي، ولا في المشاركة السياسيَّة، ولا في أنشطة الجمعيَّات، وإنَّما أولاً وأخيرًا في بيتها، مع زوجها وأولادها.

وعلى الدُّعاة أن يكونوا في هذا المجال معتدِّين بأنفسهم في مواجهة المتغرِّبين، فلا يكونوا في موقف الدفاع، ولا يرضوا بأن تُوضَعَ قِيَمُنا في قفص الاتِّهام.

ومن الحلول أخيرًا أن تُقْطَعَ العلائق الخبيثة التي تجرُّ فتياتنا إلى الانبهار بالغرب ومتابعته في كلِّ شيء، وخاصة الأفلام والمسلسلات التي تُظْهِر أنَّ المرأة الصالحة هي التي تعمل خارج بيتها، وتنافِس الرجال في الجليل والحقير؛ وأن رَبَّة البيت هي امرأة تافهة مسكينة، مُعرَّضة لكلِّ أنواع الاستغلال والإذلال.

حفظ الله نساءَنا وفتياتِنا من كلِّ تفسُّخ وانحلال.

الخميس، 14 أكتوبر 2010

إحياء القوة الكامنة في النفوس

(منشور في موقع الألوكة: الرابط)

ما حدود الصَّبر في النَّفس البشريَّة؟ وما المَدَى الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان في تحمُّل الألم، أو الامتناع عن اللَّذَّة المُشْتَهاة، أو ارتقاء مدارج تكميل النفس البشرية؟

لَطالَما لقَّن الآباءُ أبناءهم، والأساتذةُ تلاميذَهم، أنَّ للبشر حدودًا لا يستطيعون تجاوُزَها، وهم في ذلك مُحِقُّون بلا ريب؛ فإن المربِّيَ مطالَب بأن يحمي مَن يُعَلِّمهم مِن غوائل الحماس الفائر، والانبعاث غير المُنضَبِط؛ وهو لذلك يَستعمل كلَّ ما يملكه من الأدوات والوسائل؛ ليكبح جِمَاحهم، وليس يوجد في الموانع والكوابح أقوى من الكابح، الذَّاتي الذي يأخذ بِرَسَنِ النَّفْس، ويمنعها من الانطلاق، على حدِّ قول الشَّاعر في انكفاء النَّفس عن خصوص الخصال القبيحة:

لَنْ تَرْجِعَ الأَنْفُسُ عَنْ غَيِّهَا
مَا لَمْ يَكُنْ مِنْها لَها زَاجِرُ

فَالمُربُّون إذًا يضعون الأَسْوِجة الحافظة، ويَنْفثون في رُوعِ الطِّفل مبادئ الوقاية، وأصول الحماية، فإذا كبِر هؤلاء الأطفال، بقوا - في الغالب - مُحْتمين وراء تلك الضوابط الأصلية، لا يفارقونها إلاَّ لإكراه أو ضرورة، وقلَّ منهم من يَنْزع تلك القيود اختيارًا، ولا يكون ذلك إلاَّ لهِمَّة سامقة تُناطح الجبال، يُسايرها حِداءُ الرغبة، أو مانع الرَّهبة.

هذه الهِمَّة العالية موجودة عند أغلب الناس، لكنَّها في حالة سُبات داخل النَّفْس البشرية، ولا تظهر إلاَّ عند الاضطرار المُلْجِئ:
تكون الأمُّ وديعة حانية، فإذا تعَرَّض وليدها للخطر، تحوَّلَت إلى لَبُؤة شَرِسة، تتحدَّى الصِّعاب، وتركب الأهوال، بلا تردُّد ولا وجل.

ويكون الرَّجل الضعيف هادئًا مُسالمًا، فإذا خُدش في عِرْضه، تفَجَّرت براكين غضبه، وأظهر من الشجاعة وقوة النفس، ما لا يتأتَّى نظيره لقوي الجسد، مفتول العضلات.

ويُوضَع الرجل الذي أَلِف خفْضَ العيش، وطراوة الحياة، في زنزانة مظلمة مُوحِشَة، يقع عليه فيها أصناف من الظُّلم، وألوان من الأذى في نفسه وبدنه، فإذا به يَستخرِج من أعماق مُهْجته من الصبر على الأذى، وتحمُّل المشقة، ما لم يكن يخطر له مِن قَبلُ على بال.

وتكون الشُّعوب راكعة خانعة، فإذا طعَنَها الطُّغاة الجبابرة في أقدس مُقَدَّساتها، الذي به قِوَام حياتها، وبهجة عيشها، انطلَقَت من قُمْقُمِها، كالنَّهر الطَّامي، والسيل الجارف.

الهِمَّة العالية موجودة إذًا داخل النفوس البشرية، متستِّرة تحت ركام من قيود التربية، وضغوط المجتمع، وجُبْن الطبائع.

وهي تَخرج إلى العلن في بعض الحالات الاستثنائية الخاصَّة، ولكن كيف السبيل إلى إخراجها في غير تلك الحالات؟ وكيف يمكن تفجير القُوَّة التي تحملها النَّفس؛ لِتَظهر في أوقات الدَّعَة والطُّمَأنينة، فترفع صاحبها إلى مصافِّ العظماء؟

•        •         •

إنَّ الإيمان كفيلٌ بإخراج هذه القوَّة المستَتِرة.

وأقصد بالإيمان هنا معناه العامَّ، الذي يشمل كلَّ اعتقاد راسخ في قضيَّة سامية، أو مبدأٍ إنساني خالد، ولستُ أحصره في الاعتقاد الإسلامي الصحيح، الذي لا نَجاة في الدنيا والآخرة إلا به.

ودليل هذا التَّعميم، ما رأيناه مِرارًا عَبْرَ التاريخ من انبعاث القوى الخلاَّقة، من جوف عقائد مخالفة للحقِّ الصريح.

ويحضرني من ذلك مثالان، أوَّلهُما في إنشاء الممالك، وقيادة الأمم؛ والثاني في البطولة الفردية، وسمُوِّ الذات:
فأما الأول: فالثائر الماركسيُّ الأرجنتيني "تشي غيفارا"، الذي أمضى حياته متنقِّلاً في بلاد أمريكا الجنوبية وإفريقيا؛ لِنَشْر ما يظنُّه حقًّا، وللدِّفاع عمَّا يعتقده صَوابًا من الأفكار والمبادئ، ولَمَّا انتصرت ثورتُه في كوبا، لم يلبث إلاَّ قليلاً في منصبه الوزاري، حتى انتقل مرَّة أخرى إلى حياة الأَحْراش والغابات؛ لِيُشعل الثورة من جديد، وبقي على تلك الحال إلى أن قُتِل في بعض غابات بوليفيا.
وأمثال الرجل من الثوريِّين ومؤسِّسي الدُّول، لا يأتي عليهم الإحصاء في التاريخ الحديث والقديم.

وأما الثاني: فالطيار العسكريُّ البريطاني "دوجلاس بيدر" (Douglas Bader) الذي فقد رِجْليه معًا في حادثِ طائرة سنة 1931، وكان جميع من حوله ينتظرون موته؛ لِخَطر إصابته، لكنه تشبَّث بالحياة، وشرع يستعمل رجلين اصطناعيتين للمشي، وعلى الرغم من زَعْم الآخرين أنه لن يستطيع المشي بغير عُكَّازتين، فقد تحدَّاهم وأثبت عكس ما قالوه، بل زاد على ذلك بأن تمَكَّن من سياقة السيارة، وممارسة بعض أنواع الرِّياضة.

ولم تمض غيرُ أعوام قليلة، حتى انطلق إلى قيادة الطائرات الحربية من جديد، وشارك في معارك الحَرْب العالمية الثانية، وحَقَّق فيها انتصارات كبيرة، وفي سنة 1941، أُسقطت طائرته، وأسَرَه الألمان بعد أن فقد رجليه الاصطناعيتين، واتَّفقت الدَّولتان المتحاربتان على السماح للبريطانيين بإرسال رِجْلَين أُخْرَيَيْن للطيار الأسير، وقد حاول "دوجلاس" مرَّات متعدِّدة أن يفرَّ من حبسه، ولم يملك الألمان لمنعه من الفرار إلاَّ أن نزعوا منه رجليه مرة أخرى!

وما أكثر الذين يشابهون "دوجلاس" هذا في هِمَّته العالية، وقدرته الخارقة على تحدِّي الصعوبات، وكسر العقبات.

•        •         •

إنَّ آفة الآفات عند شباب اليوم ضَعْفُ المُثُل العليا، وضمور جانب المبادئ التي تُثْمِر المواقفَ، والخواء الرُّوحي الذي يُطغي مطالب الجسد على لذَّات الرُّوح، همُّهم اليوم اتِّباع الشهوات البهيمية، وحاديهم في عيشهم إملاءات (الهرمونات) المشتعلة.

وكل ذلك في الأفراد، يُنْتِج على الصعيد الجماعي مجتمعاتٍ تستشري فيها ثقافة الخوَر والجُبن؛ ودُولاً تشيع فيها الجبريَّة السياسية، والانحراف الفكري، والضياعُ الأخلاقي، وأُمَّةً مهزومة تستمرئ الهزيمة، وتقبل حياة الخنوع.

ولو قارنَّا شباب اليوم بشباب عَشر السِّتين وعَشر السَّبعين[1] من القرن الميلادي العشرين، لاَنْدهشنا؛ للتفاوت الكبير في الاهتمامات الفِكْريَّة، والحماس العمَلِي، فقد كان شُبَّان تلك الأوقات أكثرَ استعدادًا للعمل، وإن كانت العقائد السائدة في تلك الآونة خليطًا من الأباطيل والضَّلالات.

هذا في عموم الشباب، أمَّا في خصوص الشُّبَّان الملتزمين المستقيمين على جادَّة الشرع، فإنَّهم - وإن لم يكونوا متمرِّغين في أوحال اتِّباع الشهوات - ليسوا بمنْأى عن آفات الكسل والميل إلى حياة الخفض والدَّعة، والانكفاء على النفس، وقلَّة الانخراط الفعلي في معالجة هموم الأمة الكبرى، بل هم - في بعض الأحيان - يُعانون من انعدام الأهداف الكبرى التي تَدُور الحياة في فلَكِها.

ولذلك نجد في صفوف المستقيمين مَن يقضي العقْد والعقدَيْن من الزمان وهو يحاول حِفْظ القرآن، فلا يجاوز سُوَرًا معدودة، مع ضعف في الإتقان.

ونجد منهم من يعدُّ نفسه من طلبة العلم الشرعي، وهو - بعد أن تمر عليه سنوات طويلة - لا يزال يُراوح مكانه، متردِّدًا بين المناهج والطُّرق المختلفة للطلب.

ونجد من يدَّعِي السَّير على نَهْج السَّلف في العبادة وهو لا يصبر على أيسر العبادات البدنيَّة[2]، ولا يستطيع أن يواظب على بِضْع ركعات من السَّحَر.

ومنهم مَن ينتسب إلى الدعوة إلى الله، وأكثر أوقاته تضيع في "قيل وقال" على أبواب المساجد، وفي حضور الولائم والأعراس، وفي التنَقُّل بين مواقع الشَّبكة والفضائيات بغير فائدة معتبرة.

ليس كلُّ المستقيمين بهذه الصُّورة التي ذكَرْتُ، ولكن كثيرًا منهم يعيش سبَهْلَلاً، لا يعرف لحياته غاية عُظْمى، ولا يحمل بين ضلوعه هَمًّا من الهموم الكبرى لهذه الأمة.

•        •         •

فإذا ترَكْنا الجانب الفردي، وانتقلنا إلى جانب بَعْث الأُمَّة وإيقاظها من رَقْدتها الطويلة، وجدنا أن أخطر شيء تُعاني منه الأمَّة في زمننا هذا هو الهزيمة النَّفسية الخانقة، التي تجعل ما نحن فيه من التخلُّف الاقتصادي، والتَّبعية السِّياسية، والخضوع العسكري، أمْرًا لازمًا لا سبيل إلى دَفْعه، ولِسانُ حال كثير من الناس في زماننا هذا: "لا يمكننا التغيير ولا الإصلاح؛ فإنَّ العراقيل والعقبات التي تُجابهنا أكبر من أن نستطيع مقاوَمَتها".

ولو رجعنا إلى زمن الحروب الصَّليبية، لوجدنا النَّصارى الصَّليبيين قد احتلُّوا الساحل الشامي كلَّه لمدَّة تقرب من القرنين من الزمان، واحتلوا القدس ودَنَّسوا المسجد الأقصى لبضع وتسعين سنة، ثم اندحروا مهزومين، ورجعوا إلى بلادهم خائبين.

ولكن الفَرق الجوهري بيننا اليومَ وبين المسلمين في ذلك الزمن: أنَّهم آنذاك لم يعترفوا قطُّ بالهزيمة خلال تلك العقود الطويلة، ولا أقرُّوا للغاصبين بشرعيَّة وجودهم على أرض الإسلام، ولا ارتابوا يومًا في أنَّ القدس سترجع لا محالة إلى حكم المسلمين.

أمَّا نحن اليومَ، فقد داهَنَ بعضُ حُكَّامنا بعد سقوط القدس بنحو عقد من الزمان فقط، وتساقط الباقون إلى درك التطبيع والمصالحة بعد عقود قليلة، ولم يبق على عهد الثبات سوى بقية صالحة من أهل الخير من حمَلَة همِّ الإسلام، وما ذلك إلاَّ لِغَلَبة ثقافة الانهزام، ومناهج التخاذل.

وقد سمعتُ مِرارًا بعض السِّياسيين يقولون: إنَّ وجود دولة (إسرائيل) حقيقةٌ واقعة، فنحن نَدْعو إلى بعض المكتسبات الظرفية الصَّغيرة، كقيام دولة للفلسطينيِّين، ولو على قطعة يسيرة من الأرض؛ لأنَّ المطالبة بزوال دولة (إسرائيل) بالكُلِّية أمر مستحيل.

ولما كان القوم ليسوا من أهل الشرعيَّات، ولا هم من الذين يرفعون بكلام الله وكلام رسوله رأسًا، فلن نخاطبهم إلاَّ بكلام مَن يعظِّمون من ساسة الغرب، وقادة أوربا.

ويكفينا قول "نابليون بونابرت" إمبراطور فرنسا، الذي دانت له أوربا كلُّها في بضع سنين: "المُستحيل ملْجَأُ الجُبَناء"[3].

فأمَّا أهل الشجاعة والهمَّة العالية من خيار هذه الأمَّة، فليس عندهم في هذا الميدان مُحال، ما دامت القلوب تنبض بالحماس، وتفور بالعزم الأكيد.

•        •         •

وعودًا على بدء، نقول: نحتاج إلى إحياء هذه الهِمَّة العالية التي تُخالف المألوف، وتهدم قيود الضعف البشري، وإنَّ بأيدينا ما يُمكِّننا من ذلك، لو أننا نستطيع التنَبُّه إليه.

بأيدينا عقيدة سليمة من كلِّ عيب، مبرَّأة من كلِّ نقص، سهلة المأخذ، رائقة الرِّواء، قوية الأثر، حمَلَها منذ خمسة عشر قرنًا قومٌ من العرب، لم يكن في المعمورة أضعف منهم، ففتحوا بها ما بين المشرق والمغرب في سنوات معدودات.

وبأيدينا تشريع مُحْكَم، يحفظ حقوق النَّاس أجمعين، وينظِّم العلائق بين الحُكَّام والمحكومين، وبين الفرد ومجتمعه، وبين الرِّجال والنساء، وبين الصغار والكبار.

وبأيدينا تاريخ مليء بالأمجاد، مُتْرَع بالانتصارات، تتخلَّلها آلاف العِبَر للمعتبرين، والعِظَات للمُتَّعظين، وفي ذاك الخِضَمِّ الحافل مئاتٌ من العلماء والعُبَّاد والمجاهدين والأمراء، ممن يصلح كلُّ واحد منهم أن يكون قدوة لشبابنا وكهولنا وشيوخنا.

فإحياء الهِمَّة العالية يكون بتجديد العقيدة في النُّفوس، وتطبيق الشريعة في الأفراد والمجتمعات، والتعريف بالتاريخ الإسلامي المجيد وأهله الأبطال.


[1] أي: السِّتينيَّات والسبعينيَّات، كما يُقال اليومَ.
[2] يحدِّثني والدي وقد تجاوَزَ الثَّمانين من العمر - أطال الله عُمره في الطَّاعة - أنه يكون في صلاة التَّراويح في رمضان، وهو قائم، وإلى جانبه بعض الشُّبان يُصَلُّون جالسين؛ لغير عُذْر ظاهر، فينتهرهم، وهذا من الظواهر التي تفَشَّت في مساجدنا في هذه السَّنوات الأخيرة، تفَشِّيًا مُقْلقًا.
[3] بالفرنسية: (l'impossible est le refuge des poltrons).

الأحد، 10 أكتوبر 2010

حجابي

حجابي

(أصل هذا المقال قصة واقعية)

(نشرت في موقع الألوكة: الرابط)


كانت تباشيرُ الفجر الجديد تملأ الأُفق ببساطٍ من البياض، يُخالط سُدْفة اللَّيل الراحل، فينعكس على الأرض بغبشٍ من النور، تتبيَّن فيه قسماتُ الوجوه، وتقاطيعُ الأشياء غامضة لا تبوح بمكنوناتها، كأنَّها ورثَتْ من الليل شيئًا مِن كِتمانه، وحديثًا من أسراره.

وكأنَّ نسائِمَ الصباح الأولى تتراقَصُ ثائرةً في كلِّ مكان، مُنطلقة عن كلِّ قيد، تغازِلُ البِنَايات السامقة، وتجمش الأشجار المترنحة، ثم تتسلَّل بين الثياب والأجسام، فتلطِّف من حرارة الصيف الخانقة.

وكانت المدينة تستيقظ من سباتها في بطءِ الكسلان إذ يصحو، ويبقى على فراشه لَقِسَ النَّفْس، ينبعثُ العضو منه تلو الآخر، ويتثاءَب بين كلِّ حركة وأختها، فلا تكتمل يقظتُه إلا بعد دقائق طويلة من المدِّ والجزر؛ بين ضيق الفراش وسَعة الكون مِن حوْله.

كان كلُّ شيءٍ من حول "أسماء" ساكنًا مطمئِنًّا، مُقبلاً في يومه على تَكرار ما كان منه في أَمسه، قد عرَفَ الطريق التي سيسلكها فيما يستقبل من الساعات، وتبيَّنَ صورها، وأبصرَ معالمها.

أما قلبُها هي، فكان مُضطربًا واجفًا، كما لو أنَّ صدرَها صارَ قفصًا لعصفور صغير، لا يفتأ يقفز بين أسوار سِجْنه، يحنُّ إلى الانطلاق والتحرُّر، ولا يجد إلى ذلك سبيلاً.

وكان ذِهنُها الصغير مُزدحمًا بألف سؤال، ويضعُ لكلِّ سؤالٍ ألفَ جواب، ليس في واحد منها بردُ اليقين.

كانت "أسماء" قد ودَّعتْ صاحباتها عبر أسلاك الهاتف على عَجَلٍ، فلم يكنِ السفر مُخطَّطًا له منذ مدة تكفيها في لقائهنَّ ومُجالَستهِنَّ.

ولقد كانت تتمنَّى هذا اللقاء؛ لعلها تقتبسُ من دعابتهنَّ البريئة ما يُنير لها الطريق المظلِم الممتد من أمامها، أو تتنشَّقُ من أريج عبثهنَّ الساذج نفحةً تتضوَّع منها أنحاءُ رُوحها المضطربة.

ولكنَّها اضطرتْ إلى أن تُسرعَ في مخاطبة مَن أَمْكنها منهنَّ قبيل صلاة الصبح بقليل، ثم ارتدتْ ثيابها، وأحكمتْ حجابَها من فوق رأْسها، وخَطَتْ أولى خُطواتها خارج البيت الذي عاشتْ فيه سنواتٍ طويلة من عُمرها.

حملتْ "أسماء" حقيبتها، وأسرعت اللَّحاق بأبيها الذي كان يستحثُّ الجميعَ بكلماته المتلاحقة، وكان قد رسَمَ على شَفَتيه ابتسامةً عريضة، يحاولُ أنْ يُخفي بها ملامحَ القَلَق التي تسرَّبتْ من فؤاده إلى وجْهِه.

لم يكن الأب راضيًا عن هذا السفر المفاجئ الذي فُرِض عليه، ولكنَّه لم يكنْ ليخالف رؤساءَه في مثل هذا، فليسوا هم مَن يتحكَّمون في الاختيار، ولا لهم القُدرة على التغيير أو الإلغاء، وإنَّما عَملُه يَقتضي أن يتنقلَ بين بلاد الأرض، لا يقرُّ له في أحدها قرارٌ، يستقرُّ في البلد أربع سنوات لا غير، فما يشرعُ في معاشرة أهْلها، والاعتياد على حضارتهم وتقاليدهم، حتى يُنقَل على وجْه السرعة إلى بلدٍ آخرَ، فإذا به يستأنف علائقَ جديدة، ومعرفة طارفة.

فما كانت السنوات الأربع التي يقضيها في كلِّ بلد قليلة، بحيث لا يربط بأهْل البلد وشيجةً يُؤلمه قطعُها عند الفراق المحتوم، وما كانت كثيرة، بحيث تحبِّبُ له السآمةُ الانتقالَ، ويُهَوِّن عليه حبُّ التجديد مرارةَ الارتحال، وإنما كان كالشجرة الصغيرة التي تُنقلُ من مَهْدها بعد أن تنغرسَ بعضُ جذورها في الأرض.

كانتْ حياتُه على هذه الحالة منذ سنوات طويلة، ولكنَّ سفرَ اليوم لم يكنْ كالأسفار التي سبقتْه.

أما أولاً، فلأنَّه ما كان يتنقلُ من قبلُ إلاَّ بين البلاد الإسلاميَّة، فإذا اختلفتِ الثقافة، وتنوَّعت التقاليد، اتَّحد الدِّين، فلم يبقَ مِن الخِلاف إلا كما يكون بين الأخ وشقيقه، يجمعُهما كنفُ الأسرة الواحدة.

أما الآن، فهو مُقبل على بلاد أوروبا؛ حيث الفِتنُ والمغْرِيات، وحيث الشهوات والشُّبهات، وحيث .. لا إسلام.

وأما ثانيًا، فلأنَّ بِنتَه "أسماء" التي كانتْ من قبلُ طفلةً لا تَعي من أمور الدنيا غيرَ لعبها ولَهْوها البريء، قد صارت الآن فتاةً في ربيع شبابها، قد نضجتْ آمالُها، واكتملتْ تطلُّعاتها، فكيف يقتلعُ هذا الكيان الغضَّ من جذوره الراسخة في أرض الإسلام؛ ليرميه في أحضان هذه الحضارة العجيبة التي تَفْغَرُ فاها، فتلْتَهم كلَّ ضيفٍ يحلُّ عليها، ثم تَلْفِظه بعد أن تعيدَ عَجْنَه بلُعَابها؟!

أجالتْ "أسماء" بصرَها في المدينة من حولها؛ من خلال زجاج السيَّارة، وشرعتْ تُراجِع بعضَ ما عَلِق بذاكرتها عن هذه المدينة التي شَهِدتْ أُوْلَى خُطواتها في الحياة.

تذكَّرتْ مُدرِّستَها المتلفِّعة بِدثار البراءة والطُّهْر؛ حيث الألعاب البريئة، والدروس الجادَّة المفيدة، والتنافُس المشروع على أرْفَع الدرجات، وحيث الأساتذة الموقَّرون يَفرضون على مَن حولهم جَوًّا من الاحترام والهَيْبة.

تذكَّرتِ المسجد المحاذي لبيْتهم؛ حيث يُرفع - خَمس مرات في اليوم والليلة - ذلك النداء العُلوي الخالد، يصدحُ بتوحيد الخالق وتعظيمه، ويجهرُ بتقرير الرسالة المحمديَّة السَّمْحة، فيخترق عنانَ السماء، وينتشرُ في أنحاء الأرض، ويعمُّ الناس بأَريجه الطاهر.

تذكَّرتْ أرسالَ المصلِّين، وهم يتوجَّهون - في رمضان وفي غيره - إلى ذلك المسجد، يُلبُّون داعي الفلاح في ثَباتٍ وسكينة، تحدوهم لذَّةُ طلب المغفرة، ويجرُّهم البحثُ عن الرضوان، والنعيم المقيم.

تذكَّرتْ دار القرآن التي كانت ترتادُها مرة أو مرتين كلَّ أسبوع، تُلقي على أُذُنَي أستاذتها البشوش الحازمة ما أَوْكَتْ عليه صدرَها من آيات الفرقان، فتصحِّح لها ما أخطأتْ فيه، وتشجعُها على المثابَرة على الطريق، وحثِّ الخُطى في السير عليها، وتبشرُها بما ينتظرها عند الوصول المرقوب.

وتذكرتْ أصوات التاليات ترتفعُ من الحناجر الغضَّة، فتترعُ فضاء الدار بسِحْرٍ مِن عَبقها الفوَّاح.

تذكرتْ جيرانَها وهم يتشاورون في مصالح الحي، ويتجاذبون أطرافَ الحديث فيما يَجِدُّ من أمور البيوت وأهلها، فإذا أُخبروا بواحدٍ منهم وقَعَ في حاجة، أو انْشَغَلَ بموت قريبٍ له، أو وليمة زواج أو نسيكة ولدٍ، إذا بهم يتسابقون إلى العَطاء، وينضُّون بالبذل بقلوبٍ مرتاحة، ووجوه مستبشرة، لا يعيش الواحد منهم إلا من حيث هو عضو في جماعة حَيِّه، يشاركها أفراحَها وأتراحَها؛ ولا يستسيغ الواحد منهم أن يغلقَ عليه بابَ داره، ويصمَّ أُذنَه عمَّا يَهْتَمُّ له جارُه وينصَبُ.

تذكرتْ عائلتَها الكبيرة، حين تجتمع أيام الأعياد والعُطَل، تختلطُ فيها ابتساماتُ جيل الجدود بحوارات جيل الآباء، بألعاب جيل الأحفاد، يوقِّر الصغيرُ الكبير، ويحدبُ الكبيرُ على الصغير.

وتذكرتْ صاحباتها، آه من ذِكْرى صاحباتها، وآه من فِراق صاحباتها!

مسحتْ "أسماء" خلسة دمعة جادتْ بها عينُها، وقد أخفتْ نصف وجْهها في مُحاذاة نافذة السيَّارة، فتكوَّنتْ من أنفاسها الحرَّى فوق الزجاج الصقيل طبقةٌ حجبتْ عنها الرؤية، كما تحجِبُ الغيومُ زُرقة السماء، وكما يسترُ الغموضُ الكثيفُ سحنةَ المستقبل الآتي.

أأتركُ هذا كلَّه؟ أتسمحُ نفسي بالعيش بعيدًا عن وطني وأحبابي؟ ألن ينفطرَ قلبي حين يَفقدُ أسبابَ بقائه؟ ألن يضيع فِكري بين خَيَالات الماضي، وآلام الواقع؟ ألن ...؟
وتقفز "أسماء" مِن مقعدها، حين ينتزعُها صوتُ أبيها القادم من بعيد من أفكارها:
ها قد وصلْنا إلى المطار.

وانشغلتْ "أسماء" عن أفكارها السوداء، وحُزنها الممض بإجراءات الدخول وتفصيلات الركوب.

لكن ما أنْ أقلعتِ الطائرة نحو وِجْهتها البعيدة، حتى شعرتْ أسماء بقلبها يُنتزعُ من صدْرها، كما انْتُزعتْ عجلات الطائرة من فوق أرض الوطن، وهو يخفقُ خَفقان العصفور الجريح الواقع في فخِّ الصياد.

وألقتْ أسماء نظرةَ وداعٍ من النافذة على وطنها المتنائي، وأحسَّت بحُبِّه يكبرُ في قلبها بمقدار ما كان حَجْمه يتضاءَلُ في عَينها، وهي تبتعد عنه.

نزلت الطائرة بعد نحو الساعتين من الزمان، هي كلُّ ما يفصِلُ بين إفريقيا وأوروبا، وبين حضارة الشرق وحضارة الغرب، وتأخَّرت أسماء قليلاً، حتى لم يبقَ من الرُّكَّاب غيرها، وظلَّتْ مُتشبِّثَة بالطائرة، كما يتشبَّثُ الغريقُ بطوق النجاة، إلى أنِ افْتقدَها أبوها فرجعَ إليها؛ لينتزعَها من آخر مكان - تشعرُ بارتباطها العاطفي به - كما تُقتَطفُ الوردة من حِضْن الثرى، فهل يبقى لها غيرُ الذبول؟! وكانتْ لحظة الولوج إلى المطار كالبرزخ الزمني بين حال وحال.

كلُّ شيء تغيَّر؛ الوجوه غير الوجوه، وكلامُ الناس غير الكلام، وحركاتهم غير الحركات، حتى الطقس يستثيرُ أحاسيسَ الغُرْبة من مكامنها!

ودخلتْ أسماء في دوَّامة من الأحداث المتسارعة، لم تتركْ لها مجالاً للتفكير، ولا لخيالها مجالاً للانطلاق، كانت الصوَر تمرُّ أمامَ عينَيها متلاحِقة، كما تمرُّ صوَر السينما أمام مشاهدها؛ ابتسامة باردة على وجهٍ حازم هنا، وامرأة نصف عارية تعانقُ صديقًا لها هناك، جماعة من الشُّبان العابثين بأثواب مُزرْكشة غريبة، يتمايلون على أنغام الموسيقا التي تخترقُ آذانَهم، رجل جالس في قاعة الانتظار وعلى رُكْبتيه حاسوب محمولٌ قد انشغلَ بالنظر فيه عن الدنيا كلِّها، شاب بسترة داكنة يحثُّ الخُطى نحو الباب وهو مشغول بمكالمته الهاتفيَّة عن الكون من حوله.

أحسَّتْ أسماء بالدوار، فأغلقتْ عَينيها، واستسلمتْ لهذه البيئة الجديدة التي اكتنفتْها مِن كلِّ جانب، وأطلقتِ العنان لآمالها؛ لعلَّها تخفِّفُ عنها شيئًا من وطْأَة القَلَق الذي يساورها.

لم تلبثْ أسماء إلاَّ أيَّامًا قلائلَ، حتى جاء موعد الدخول المدرسي، كانت تعلمُ حقَّ العِلم أنَّ أخطرَ ما سيواجهها من التحدِّيَات في حياتها الجديدة سيكون في المدرسة.

كانتْ تنتظرُ مشكلاتٍ في مناهج الدراسة ومُقَرَّراتها، أو في التعامُل مع الأساتذة الأوروبيين، وكانتْ تَخْشى ألاَّ تجدَ لها بين زميلات الدراسة صديقةً توافقُها في طباعها وطريقة تفكيرها.

كانتْ تتوقَّع أشياءَ كثيرة من السوء بمكان، ولكنَّ شيئًا واحدًا لم تتوقَّعه، ولا خَطَر ببالها قطُّ.

دخلت المدرسة إلى جانب أبيها، تكادُ تحتمي بشخصه من النظرات العابرة، التي تجزمُ في باطن نفسها بأنها تلاحقُها، وتوجَّها معًا إلى الإدارة؛ لتكميل إجراءات التسجيل.

كانت المديرة غارقة في كُرْسِيِّها الوثير، وأمامها كومة من الأوراق المتناثرة، وما أنْ دخلتْ أسماء وأبوها، حتى رفعتْ إليهما عينين باردتين، فارغتين من كلِّ إحساس، وألقتْ عليهما تحيَّة أبردَ وأفرغ، كأنَّها كانتْ قد استعدَّتْ للقائهما بقراءة ما في ملف التلميذة من المعلومات.

وبعد كلمات مُجاملة مُقْتضبة طلبت المديرة من أسماء أنْ تُغادرَ المكتب، وتنتظرُ أباها في القاعة المجاورة؛ لأنَّ لَدَيْها ما تناقشُ والدها فيه، وخرجتْ أسماء، واستسلمتْ من جديد لهواجسها التي لا تُطاق.

مرَّت ساعة قبل أن يخرجَ الأب من غُرفة المديرة؛ شاحب السحنة، مُمتقع اللّون؛ كأنَّ رُوحه قد اختُطِفتْ مِن جَسَده، وبَقِي منها شيءٌ يسيرٌ تتحرَّك به أطرافُه، وأسرع نحو الباب وأسماء تلحقُ به.

وما أن دَلَفا إلى السيارة، حتى ألْقَى إليها الخبرَ المفجِعَ:
أسماء، أخبرتني المديرة أنَّ عندهم قانونًا يلزمُنا، أقصد: يلزمُكِ.

ورفعتْ أسماء عينيها إلى أبيها في تُؤَدَة، فالتقتْ عيناهما، ووجَدَ الأب الفرصة سانحة ليُلقي كلماته في ألْطَفِ ما يقدر عليه من التعبيرات، وبأرقِّ ما لَدَيه من الحنان:

أسماء، عليكِ أنْ تخلعي حجابَك إنْ شئتِ الالتحاق بالمدرسة.

نزَلَ الخبرُ على رأس أسماء كما تنزلُ المطرقة الحديديَّة الضخْمة، فلا تتركُ من ورائها غير الدمارَ في المشاعر، والشتاتَ في الأفكار، والغصَّة في الحَلْق.

واستدارتْ مرَّة أخرى إلى زجاج النافذة تتأمَّل الكونَ من ورائه، وسكتتْ وسكتَ أبوها، فليس عنده من الكلام ما يُفيدُ، بل ما بَقِي للكلام مجالٌ أصْلاً.

كان الليل ساكنًا؛ فيه وحْشَة القبور، وضيق اليأْس، وقُبْحُ الظلم.

كانتْ أسماء تتقلَّب على فراشها، ولا تكتحلُ عيناها بنومٍ، تناجي نفْسَها بصوتٍ مسموع تارة، وتُخْفِي هواجسَها في نفْسِها تارة أخرى، ثم إذا ضاقتْ عليها منافذُ الأمل، توجَّهتْ إلى ربِّها بالدعاء.

ما أقدرَ هذا الذهنَ الصغير على تحمُّل هذا القرارِ الكبير!

وهل هي تملك القرارَ أصْلاً؟ أليس القرار مُعَدًّا من قبل، أعدَّه أساطين الحريَّة الشخصيَّة، وأربابُ المنافحة عن حقوق الإنسان؟!
أُفٍّ لكم ولحريَّتكم التي تقِفُ عند حدود شُقر الرؤوس، وزُرق العيون، ولا تتجاوزها إلى الذين تعدُّونهم بالكلام بشرًا مثلكم، وبالفعل حشراتٍ مُؤذية تتنافسون في سَحْقها!

أفٍّ لشعاراتكم الجوفاء عن حقوق الإنسان، ألا ليتكم توضِّحونها بقيدٍ يصرفُ الجُهلاء من بني جِلْدتنا عن الاغترار بها! ليْتَكم تقولون: حقوق الإنسان الغربي أو الأوروبي، أو ما شِئتم من القيود!

أليس من حقِّي - في أعرافكم ودساتيركم - أنْ ألْبَسَ ما أشاء من الثياب، وأُنْشِئ ما يحلو لي من التصرُّفات؟!
ألستم تزعمون أنَّ للفرد حريَّته التامَّة؛ في مُعتقده وفِكره، وتعبيره وهَيْئته، ولباسه وأكْله وشُرْبه، ما دامتْ حُريَّته لا تتعارضُ مع حريَّة الآخرين؟! وهل حجابي الذي أضعه على رأْسي يعارضُ حريَّة زملائي أو أساتذتي في الدَّرْس؟!
أنتم تقبلون في مجتمعكم العاهرة التي تبيع عفافَها لكلِّ ذئبٍ بشري، وتقبلون الراقصة العارية التي لا تردُّ يدَ لامسٍ، وتقبلون الممثِّلة في الأشْرطة الداعرة البهيميَّة - ولتعذرني البهائم - ثم لا تقبلون فتاةً تضعُ على رأْسها حِجابًا؟!

في مجتمعاتكم شبابٌ متعصِّبون، يحلقون رؤوسَهم، ويَشِمون على سواعدهم صليبَ النازيَّة المعقوف، ويُثنون على زعماء الفاشية الذين قُتِل بسبب حماقاتهم ملايين الأوروبيين، ومع ذلك لم تتحرَّكْ حكوماتكم لسنِّ القوانين، وتجريم هذه الأعمال، أضاقتْ عقولُكم وقلوبُكم عن تقبُّل فتياتٍ مُهذَّباتٍ مُحجباتٍ، ليس في هيئتهنَّ عليكم من ضررٍ؟! ولكن، لِمَ ألومُكم؟!

ليس الخطأ منكم، ولا العتب عليكم، ومتى عوتِبَ الذئبُ على قرمه إلى لحوم النعاج؟! أم متى لِيمَتِ السباع على افتراسِها ضعافَ الأنعام؟!
وهل أنتم إلا عدوٌّ من الأعداء، كشَّر عن أنيابه منذ زمان بعيد، وأظْهَرَ لُؤْمَه وعَدَاوته كلَّما تمكَّن من ذلك؟! ومتى كان الذي بين الأعداء عتابًا وعذلاً؟!
أنا ألومُ بعضَ حُكَّام المسلمين الذين يضطهدون المحجَّبات في بُلدانهم، فيكونون للأوروبيين قدوةً في الشرِّ.

وألومُ المفكِّرين المنتسبين للإسلام، حين يهوِّنون من شأْنِ الحجاب، كأنَّه ليس من شريعة الله.

وألوم المجتمعات الإسلاميَّة التي تتهالكُ على حضارة الغرب، وثقافة الغرب، وكلِّ ما يأتي من الغرب، حتى صِرْنا محتاجين إلى الغرب في كلِّ ما نُبْقي وما نَذر، وصار الغرب عنَّا في غنًى.

وألوم الآباءَ الذين يُرسلون أبناءَهم إلى بلاد الكفر، فيَسلم القليلُ منهم بعد سنوات من المجاهدة والمدافَعة، ويضيع الأكثرون في مَهَامه الفِسْق، وفيافي الشبهات، فإذا مرَّت السنوات صِرْتَ ترى الرجل المقيم هناك ليس فيه من الإسلام غيرُ الاسم والعنوان، وشيءٌ من التقاليد البالية التي حَزَمها مع أمْتعته حين قَدِم إلى هذه البلاد، وهو يحسبُها من الإسلام، أو يظنُّها الإسلام كلَّه!

ألومُ الآباء حين يصمُّون آذانَهم عن صَرَخات المستضعَفَين من المسلمين الذين يُفتنون في دينهم صباحَ مساء، ولا يَملكون لردِّ العُدوان عنهم حِيلة، ولا يهتدون سبيلاً.

فإذا بهم يحتجون بمن سَلِم من الفتنة، ونجا بدينه، وهم الأقلُّ، ويغمضون أعينهم عن رؤية الهالكين، وهم الأكثر!

وما بهؤلاء الآباء إلاَّ الانبهار بالغرب وثقافته؛ حتى إنَّ كثيرين منهم يُرسلون أبناءَهم للدراسة في تخصُّصات مشهورة، يوجدُ نظائرُها في بلاد الإسلام!

ولو أنَّ الآباء - وهم مُؤتَمنون على أولادهم - عَلِموا أنَّ في مكان ما وباءً يَستشري، أو مَرَضًا ينتشر، لَمَا دَفَعوا بفلذات أكبادهم إلى ذلك الأتُّون المستعر؛ مَخافة أن يلتهمَ صحة أبدانهم، فكيف يهون عليهم أن يُرسلوهم إلى بلاد الغرب، وهم يعلمون أنها تأكلُ أديانَهم، وتُمْرِض قلوبَهم، وتُسَمِّم أفكارَهم؟!
صَدَق رسولُ الله حين تبرَّأ من الذي يقيمُ بين المشركين، وهل تكون إقامة اختياريَّة إلاَّ بمودَّة وإخاء، وبنقضٍ لعُرَى الوَلاء والبَرَاء؟! وهل تكون إلا بتنازُلٍ عن شيءٍ من الدِّين؛ صَغُرَ أو كَبُرَ، وليس في الدِّين صغيرٌ؟!
باتتْ أسماء ليْلَتَها بشرِّ حال، ولَمَّا أضاءَ الكون بشمسِ الصباح الوديعة، كان قلبُها لا يزال في ظُلمة كئيبة.

ذهبتْ بصُحبة والدها إلى المدرسة، وبعد أنْ نزلتْ مِن السيارة، وودَّعتْ والدها بكلمة آلية فارغة من كلِّ شعور، تسلَّلتْ في بطءٍ إلى باب المدرسة.

وهناك على الباب مدَّتْ يدَها اليُمْنى إلى عروة حجابها لتفتحَها، ويدُها اليُسرى إلى خَدِّها؛ لتمسحَ دمعة مهراقة، وضجيج التلاميذ يقرع الأسماع.

الثلاثاء، 28 سبتمبر 2010

لا تحقر الشهادة!


المقال منشور في موقع الألوكة: الرابط من موقع الألوكة 

بين يديَّ الآن كتابٌ أتسلَّى بقراءته، وأريح ذِهْني من الكلال الذي يُصيبه كثيرًا، بعد شيء من المجهود في مُطالعة كُتب العِلم الشرعي المختصَّة، أو الكتب الأدبيَّة الدَّسِمة، وهو كتاب "ما بعد الأيام"؛ لصاحبه الدكتور أحمد حسن الزيَّات، خَتَن الدكتور طه حُسين على ابنته.

وهذا الكتاب أرادَ له مؤلِّفُه أن يكونَ تَتِمَّة للسيرة الشخصيَّة التي عقَدَها طه حُسين لنفسه في كتابه "الأيام"، ويقول المؤلِّف: إن التلفاز المصري طلَبَ منه أن يعدَّ فصولاً في سيرة عميد الأدب العربي، يعتمد عليها في إخراج سلسلة تلفازيَّة جديدة عنه، فكان هذا الكتاب استجابة لرغبة مسؤولي التلفاز.

وأنا أتركُ جانبَ ما يُمكن أنَّ يُقال عن دِقَّة المؤلِّف في خَلْطه بين الأحداث الواقعيَّة، والمواقف المفترضة المتخيَّلة؛ وأترك التشكيكَ في موضوعيَّة المؤلِّف، حين يَعْرض لمواقف المترجم السياسيَّة، أو مساجلاته الفكريَّة والأدبيَّة، وأترك التعليقَ على أسلوب الكاتب، الذي سارَ فيه على طريقة كُتَّاب "السيناريو"، فتتوالَى فيه الأفعال المضارعة على صورة ترهقُ صاحب الذوق الأدبي السليم.

أترك هذا كلَّه؛ فليس مما يهمني في قبيلٍ ولا دَبير، والكتاب - قبل كلِّ شيء - ليس مما يُحتفى بنقْده، وتَتَبُّع مواطن الخَلل فيه؛ إذ هو أقلُّ من ذلك بكثير، ولا يخرج إجمالاً عن طرائق أهْل الصحافة المكتوبة في مؤلَّفاتهم.

لكنَّ بعضَ المواضع من الكتاب استثارتني، ورمتْ بِيَ بين أحضان الحاسب؛ لأُرَقِّمَ هذه السطور.

تأمَّلتُ في حالة هذا الرجل الذي يُقال عنه عميد الأدب العربي، وعدْتُ بذاكرتي إلى ما قرأتُه له من مؤلَّفات، وأنا بعدُ في سنِّ المراهقة، ككتابه عن الأدب الجاهلي، ومجموعة مقالاته التي كان يصدرُها يوم الأربعاء في بعض المجلات، ثم جمَعَها في سِفْرٍ واحدٍ من ثلاثة أجزاء، وأضفتُ إلى ذلك ما قرأتُه له بعد ذلك؛ من الروايات والكُتب.

وتدبَّرتُ ذلك كلَّه بميزان النقْد الذي اصطنعتُه لنفسي بعد أن عرَفْتُ من الأدباء القُدامى والمحدَثين - من أهْل العربيَّة وأربابِ الأدب الأوروبي الحديث - ما صِرْتُ به أعلم بمصادر الأدب وموارده منِّي أيَّام كنتُ مُراهقًا حَدَثَ السنِّ، تستهويني الدعاوى، وتغرُّني الألقابُ.

ولم ألبثْ بعد يسيرٍ من التدبُّر أن انبعثتْ من أعماقي صَرخةٌ فيها كثيرٌ من الألم والمرارة: ما الذي جعلَ هذا الرجل يتربَّع على عرْشِ عمادة الأدب العربي في العصر الحديث؛ حتى صارَ أولادُنا في المدارس يعرفون اسْمه قبل أن يعرفوا أسماء الرافعي، والزيَّات، ومحمود شاكر، والطنطاوي؟ أستغفر الله، بل هم يعرفون اسمه وكُتبه وشيئًا غيرَ قليل من سيرته، ثم هم لا يعرفون أسماءَ الآخرين أصْلاً، فضْلاً عن أن يكونَ لهم بعضُ اطلاعٍ على كتاباتهم!

أيكون ذلك لأجْل أسلوبه الفني، الذي يُسحر الألباب، ويأْسِر القلوب؟ كلاَّ والله! ليس لطه حسين من ذلك شيءٌ كبير ولا صغير، بل أسلوبه إنْ يرتفعْ قليلاً عن أساليب عامَّة طلبة الأدب وكُتَّاب الجرائد، فإنَّه لا يرتقي إلى مراتب الأدباء المبرزين من أهْل العصر، عربيِّهم وعجميِّهم، فليس هو من أهْل الصناعة والتكلُّف اللفظي، ولا هو من أهْل السلاسة وتوليد المعاني، وليس فيما يكتبُ تشبيهاتٌ رائقة، ولا تراكيب مُتناسِقة، ولا خيال أخَّاذ، ولا وصْف دقيقٌ، هذا مع تَكرارٍ كثير تَمَلُّ منه الأسماعُ، وتكلُّ من ثِقَله العيون؛ وحَوَمان طويل حول المعنى المقصود، فلا يصيبُه إلاَّ بعد أنْ تتفطَّرَ كبدُ القارئ، أو تكاد.

أم لعلَّ ذلك لدِقَّته في البحث، وإبداعه في النقْد الأدبي، وتجديده في أصول المناهج العلميَّة؟!

وهذا أيضًا كسابقه؛ فإنَّ اقتباسات طه حسين قد سارتْ بذكْرها الرُّكْبان، واشْتُهر عنه أنَّه ممن يجحدُ العارية، لكنَّ جريمته في الفِكْر لا في حُلي الناس، وهذا كتابه عن الشعر الجاهلي، الذي يَعده أنصارُه مَفْخَرته العُظْمى، بل مَفخرة الأدب العربي في هذا العصر، ما زادَ فيه على أنْ أحيا من أقوال بعض المستشرقين ما ماتَ، وحرَّك من راكده ما سَكَن، ثم نسَبَ لنفسه الفضلَ كلَّه، ويأبَى الله إلا أن يكونَ - في واقع الأمر - قد نسَبَ لنفسه الجُرمَ كلَّه.

فماذا بَقِي للأديب، إنْ لم يكنْ له من هَذَين نصيبٌ؟!
بَقِي الضجيجُ والعجيج، واصطناعُ هيئة المجدِّد المظلوم في عصره، عصر الظُّلمات والجهالات فيما يزعم أنصاره، وارتداءُ مسوح شهيد الفِكر الذي يقدِّم نفسه - صباح مساء - قُربانًا في مذبح الحريَّة والتنوير!

والرجل - بلا شكٍّ - ليس مدفوعًا على حِرفة الأدب، ولا هو بالذي يُنكرُ اطلاعُه ومعرفته، ولكنَّ غاية أمرِه أن يكونَ أديبًا كعامَّة أُدباء عصره، أمَّا أنْ يكون عميد الأدب العربي الذي يُقام له ويُقعَد، فلا والله، إلاَّ أن تكونَ صُمُّ الجنادل نجومًا، وحبَّات الرمْل أقمارًا، والعيون الناضبة بحارًا، وطه للأدب العربي عميدًا!

قرأتُ في كتاب الدكتور الزيَّات: كيف كان طه حسين يَسعى وهو بعدُ أستاذ في الجامعة - عن طريق رفع تقرير إلى اللجنة المكلَّفة بوضْع برامج التعليم - إلى إدخال تعليم لغتين في كليَّة الآداب؛ اللغة اليونانيَّة لأهميَّتها لدارسي التاريخ والأدب والحضارة العالميَّة، واللغة القِبطيَّة لأهميَّتها لدارسي التاريخ والأدب والحضارة المصريَّة!

وقرأتُ فيه أيضًا: كيف كان حريصًا - وهو عميد لكلية الآداب في جامعة القاهرة - على التحكُّم في المقرَّرات التعليميَّة للجامعة، وعلى إدخال تعليم اللغات الأجنبيَّة، والأساطير والخُرافات الوثنيَّة، التي يسمُّونها ثقافة يونانيَّة، وعلى ولوج النساء إلى الجامعة، ومخالطتهنَّ الرجالَ فيها، وعلى غير ذلك؛ مما كان له أثرُه العميق في المجتمع المصري فيما بعدُ.

وقرأتُ في الكتاب أيضًا: كيف كان الرجل حريصًا على منصب المراقب العام للثقافة العامَّة في وزارة المعارف؛ لأنَّه كما يقول: "عَملٌ مُهِم وخطير، وفيه فرصة لتحقيق أفكارٍ في التعليم سجَّلتُ بعضها في كتاب: "مستقبل الثقافة في مصر"، هذا إنْ صحَّ ما نقلَه الزيَّات، وما إخاله إلاَّ صحيحًا.

ثم قرأتُ: كيف سَعَى إلى إنشاء جامعات ومعاهد خارج مصر، تُبَشِّر بأفكاره التغريبيَّة في الثقافة والتعليم، وكيف ربَّى أجيالاً من الطَّلبَة - نسجوا على منواله من بعده - على مبادئه الهدَّامة، التي مُلخَّصها: أنَّ نجاتنا في الالتحاق بالغرب، وإغذاذ السير وراءَه، إلى أن نصِلَ إلى ما وصَلَ إليه من حضارة ماديَّة عصريَّة، أو تنقطع أديانُنا وثقافتُنا وتميُّزُنا الحضاري دون ذلك.

وتساءلتُ بعد أنْ قرأتُ هذا كلَّه، وزدتُ عليه بعضَ ما كنتُ أعرفُ عن الرجل من قبلُ: لو لم يكنْ طه حسين دكتورًا متخرِّجًا من جامعة كبرى مشهود لها عند أهْل الشأن الأكاديمي، أكان يقدرُ على إنجاز نصف ما أنجزه، أو ثُلُثه أو عُشْره، أو أقل من ذلك؟!

نعم، كان يُمْكنه أن يكتبَ في الجرائد، وينشرَ في المجلات، ويبثَّ في الناس مؤلَّفاتٍ يعرضُ فيها عصارة ذِهْنه، ولُباب فِكْره، وكان الناس سيصفقون له في عَصْره - إن أعجبَهم إبداعَه.

ولكنَّه على كلِّ حال لن يكونَ إلا أديبًا من الأدباء، وناقدًا من النُّقَّاد، يتكلمُ كثيرًا كما يتكلَّم أصحاب المعارضة في المجالس النيابيَّة، ثم لا يكون إلا ما يقرِّره مَن لهم مقاليد الحُكْم، وإليهم المرجِع في وضْع المناهج، وصَقْل عقول الناشئة.

لستُ أدَّعي أنَّ الشهادة الأكاديميَّة عصًا سِحْريَّة تجعلُ الأسوار التي توقفُ السَّيْرَ خرابًا، وتحوِّل التلالَ التي تقطع الطريقَ رمْلاً وتُرابًا.

ولستُ أزعمُ أنَّ طه حسين اتَّكأ في صعوده على الشهادة وحدَها، وأنه لم يكنْ له - من المواقف السياسيَّة، والعلائق الاجتماعيَّة، والإسناد الأجنبي - ما يجعلُه في أنظار المتصرِّفين رجلاً ملائمًا؛ لتطبيق ما يريدون تطبيقَه في الأُمَّة؛ من أفكار ومناهجَ.

لستُ أدَّعي ذلك، ولكنَّني أعلمُ أنَّ الشهادة الأكاديميَّة صارتْ - في عُرْف القوم - التزكيةَ الوحيدة التي يقرون بها؛ للتمييز بين المحقِّ والمبْطِل، وبين المبتدئ والمنتهي، وبين الشادي والمختص.

ولطالما تساءلتُ: ما الذي يجعلُ الدعوات الحَدَاثيَّة الهَدَّامَة - في اللغة والأدب والدِّين - تنتشرُ في الأُمة منذ أكثر من قرن من الزمان كما تنتشرُ النار في الهشيم، على الرغم من كثرة الأقْلام التي حذَّرتْ من خطرِها، وكثرة المنابر التي هزَّتها حناجرُ الخطباء؛ إذ يبيِّنون حقيقةَ أمرِها؟!

لِمَ تنتشر هذه الدعوات والقائمون عليها ليسوا من فطاحلِ الفكْر، ولا جَهابذة الرأْي، وليسوا إذا قيسوا بمن يردُّ على باطلهم من العلماء والمفكَّرين، إلاَّ كالبقل في أصول النخْل، وحبَّات الرمْل إن قِيستْ بنجوم السماء؟!

ستقول أيُّها القارئ: ما أيسرَ الجواب عن سؤالك هذا! إنما انتشرتْ بقوة الحديد والنار! بثَّتْها في الأُمة قوى الاستعمار الغربي، ثم سَارَ على نهْجه في نشْرِها وحمايتها والمنافحة عنها بقوة السلطان أقوامٌ تركَهم الغرب بيننا ساهرين على حِفْظ تُراثه، وحماية مبادئه.

وأنا لستُ أنكِرُ هذا الجانب، ولا أبخسُه حقَّه، وهو عندي أول الأسباب وأعظمُها، ولكن للحديث عليه مجال من القول غير هذا الذي نحن فيه.

ولكنني تأمَّلتُ أصحابَ هذه الدعوات، فمنذ بداية العصر الحديث إلى يومنا هذا الذي نتلظَّى بأُوار فِتَنه، فوجدتُ أكثرَهم من أهْل الشهادات الجامعيَّة العُليا، يدخل أحدُهم الجامعة خَلْوًا من كلِّ عِلمٍ يعصمُه، صِفْرًا من كلِّ فِكرٍ يحميه ويحصِّنه، فيجد عند أساتذة الكلية مناهج مُسطرة، وتوجُّهات فكريَّة مُقرَّرة، تكتنفُها دعاوى عريضة، وتبجُّحات تنهدُّ الجبال من هولها، فلا يلبثُ المسكين أن ينساقَ وراء القوم فيما هم فيه، وإذا هو بعد سنوات قليلة قد تخرَّج من الجامعة، وأمسكَ بين أناملِه تلك الورقة السحريَّة، التي تؤهِّله للتأليف والنشر والخطابة، وتمكِّنه من أنْ يعتليَ مِنَصَّة التدريس، يبثُّ في طَلَبته ما أفعمه به أساتذتُه، فتكتمل الحلقة، ويستدير الزمان بأهْله.

وتأمَّلتُ حال العلماء والأدباء الذين وقفوا في وجْه هذه الدعوات الحَدَاثيَّة والإلحاديَّة؛ قديمًا وحديثًا، فرأيتُهم شموسًا وأقمارًا، يضيء فكرُهم سُدْفة الجَهل البهيم، ورأيتُهم بحارًا وأنهارًا، يطمُّ علمُهم فيافي البلاد، فيستنبت كلَّ غضٍّ من الحِكْمة، وكلَّ مُونقٍ من معاني الإيمان، ولكنَّهم - إلاَّ ما لا حُكم له من النادر - ليسوا من حَمَلة الشهادات، ولا هم ممن اكْتحَلتْ أعينُهم برؤية فصول الدراسة الجامعيَّة أصْلاً.

لقد جاء الغرب - منذ أكثر من قرن - بجَحافله إلى بلاد الإسلام، وعَلِمَ أنَّ المعركة ليستْ مقصورةً على ميادين الوغَى، وساحات الهيجاء، بل هي في الأفكار والمفاهيم والتصوُّرات، وقد تيقَّنَ حقَّ اليقين أنَّه ما أخرجَه من هذه البلاد أيَّام الحروب الصليبيَّة، إلاَّ أنَّه حين دخَلَ مزهوًّا بانتصاراته العسكريَّة، لم يَأْبه لصراع الأفكار، ولم يحفلْ أنْ يغيرَ مبادئ الناس، ويدجن أذهانَهم، ويستهوي قلوبَهم، فما عَتَّمَ أنْ خرَجَ مهزومًا، لا يلوي على شيء، حين تحوَّلتْ أفكارُ المسلمين ومبادئهم إلى عساكر وسلاح تدكُّ معاقِلَ الاحتلال الصليبي.

تيقَّن الغربُ ذلك وعَلِمَه، ولكنَّه وجَدَ أمامَه جامعاتٍ إسلاميَّة عريقَة، مُوغِلة في القِدَم، متجَذِّرة في حضارة الأُمة ودينِها وثقافتِها، وجَدَ الأزهر والزيتونة، والقرويين وابن يوسف، فحاوَلَ أن يطوِّعَها لمآربه، ويسخِّرَ شيوخَها وعلماءَها لأغراضه وخُططه، ولكنَّه وجَدَ أمامَه سدًّا منيعًا من المقاومة، وعَلِمَ أنَّه لن ينالَ مِن تلك الجامعات وأهْلها، إلاَّ بعد جُهْد جهيدٍ، ووقتٍ مديدٍ، وليس يملِكُ هذا، ولا تسمح نفسُه بذاك.

وقد استقرَّ في أذهان الغربيين أنَّ الذي يخطُّ طريقًا، أو ينشِئ سكَّة حديدٍ، فيواجهه جبلٌ قائمٌ، ولا يقْدِر على دَكِّ الصخور، وحفْرِ الأَصْلاد، ما عليه إلا أنْ يُغيرَ مَسْلَك الطريق، فيلتف حولَ الجبل، ويُكمل بناءَه بين السهول المنبسطة، التي لا تكلِّفه حَفْرًا ولا هَدمًا، وهذا الذي كان في أغلب بلاد الإسلام.

ترَكَ الكفَّار المحتلون هذه الجامعات على حالها، ولم يتعرَّضوا لها بغارة في رابعة النهار، ولكنَّهم الْتفّوا، فبنوا جامعات عصريَّة فيها من العِلم والأدب الأسماءُ دون الحقائق، كما أنَّ في الدنيا خمْرًا وعَسَلاً، وفي الجنة خمْرًا وعسلاً، وليس الخمْر كالخمر، ولا العسلُ كالعسل.

وبدأتْ هذه الجامعات تُفَرِّخُ العلماء والأدباء، وفتحتْ أمامَهم أبوابَ الحُكم على مِصْراعيها، فتسلموا أزِمَّة الثقافة، وخُطُمَ الحضارة، وأنشأ هؤلاء أجيالاً من الناس، تسيرُ على هَدْيهم، وتتبَّع خُطاهم؛ حُذو القُذَّة بالقُذَّة، إلى أنْ صارَ زمانٌ انقطعَ فيه إنتاج العلماء والمفكِّرين بشكلٍ رسْمي ومنظَّم في أغلب بلاد الإسلام، إلاَّ أنْ يكونَ عن طريق الجامعات العصريَّة، وصار إسهامُ الجامعات العتيقة في الفِكْر والحضارة، على الأطْراف والحواشي، بعد أنْ كانتْ تحلُّ من جسد الأُمَّة محلَّ القلب النابض، والضمير الواعي، فأُغْلِق بعضُها بعد أن اضمحلَّ دورُه في الحياة، وبَقِي بعضُها الآخر صورة هامِدَة، وبدنًا لا رُوحَ فيه.

ولولا أنَّ الله - تعالى - تداركَ هذه الأُمة بصحوة إسلاميَّة جارفة أحْيَتِ المساجد والبيوت بالعِلْم والفِكْر، لانْقَرَضَ العلماء الربَّانيُّون من الأُمَّة، وما بَقِي فيها غيرُ نسْلِ الجامعة.

لقد صارَ العَوَام في كثيرٍ من بلادنا لا يقتنعون بكلام الشخص ما لم يكنْ حاملاً لشهادةٍ أكاديميَّة من إحدى هذه الجامعات العصريَّة.

وصارتْ هذه الشهادة تفتحُ لصاحبها أبوابًا دعويَّة هامَّة؛ في المحاضرات العامَّة، والدورات الثقافيَّة، والجرائد والمجلات، وإصدار الفتاوى، وغير ذلك.

وإنني - والله - لأعْرفُ من العلماء مَن شاب رأْسُه في تحقيق فنون العلم، لو أرسَلَ مقالاً أو فتوى لمجلة أو جريدة سائرة لم تَأْبه له، وأعرف - بالمقابل - من حَمَلة الشهادة الجامعيَّة مَن لا يفرِّق في العلم بين الكوع والبوع، ولكنَّه لو تكلَّم في مسألة ما، لقالَ أهلُ الجهل، وسَدَنة الإعلام الذي يُؤَطِّر العَوَام: "هذا رجلٌ من أهْل الاختصاص؛ فاسمعوا لقوله، ولا تلغوا فيه".

الجامعة إذًا أداة طَيِّعَة في أيدي المتحكِّمين في ثقافة الأُمة، وما علينا إلا أنْ نقفَ من شهاداتها أحدَ موقفين لا ثالثَ لهما:
إمَّا أن نرفضَها رفْضًا قاطعًا؛ لأنها تنشرُ الفكرَ المنحَلَّ، وتبثُّ الجهلَ في صورة العِلم، وتبني جحافلَ من أنصاف العلماء[1] تتصدَّرُ قبل أن تتأهَّلَ، فتُفْسد أكثر مما تُصْلح، وهذا صوابٌ في أغلبه، حقٌّ في مُجمله، وقد بُليتُ من ذلك - أيَّام إعداد شهاداتي الأكاديميَّة - ما أيقنتُ معه أنَّ الجامعة[2] فسادٌ كبيرٌ، وصلاح يسيرٌ، وغرورٌ خطير!

ولا نملكُ بعد هذا الرَّفْض إلا أنْ نضجَّ بألوان التهكُّم على الشهادة الجامعيَّة، ونُلْحِقَها بشهادة الزور في الحقيقة والمعنى، أو نرفعَ عقيرتنا بالشكوى من اختلال المفاهيم، وتطفيف موازين الحُكم على الرجال[3].

وإمَّا أنْ نزاحمَ القوم على كَراسي الجامعة، وقد تحصَّنا من قبل ذلك بدرعٍ سابغة؛ من الاعتقاد السليم، والفِكر الصافي، والعلمِ الشرعي النافع.

فإذا تمكَّنا من تلك الورقة العجيبة التي يسمُّونها شهادة أكاديميَّة، انطلقنا إلى ميادين النضال الفِكري، وقد فُتحتْ أبوابٌ كانتْ من قبل مُغْلقة، وانجلتْ آفاقٌ كانتْ من قبلُ بالغيوم مُلبَّدَة.

إنني لأَجُدني أميلُ كلَّ الميل إلى هذا الموقف الثاني، وأرى أنَّ مصلحة الأُمَّة في ذلك، وإنْ لم يخلُ الأمرُ من بعض المفاسد، ولكنَّها في جَنْب المصالح المرجوَّة قليلة ضئيلة.

ويتأكَّد مَيلي هذا كلَّما رأيتُ خطيبًا على منبر، أو داعية في وسيلة إعلاميَّة، وهو يخبط في العلم خَبْط عشواء، ولا يشفع له أمامَ الناس إلاَّ الدال[4] التي يقدِّمها أمامَ اسمِه، فتُعطيه من الحَصَانة ما لم يكنْ ليدَّعيه دونها، وأتحسَّر حينئذٍ؛ لأنَّ مَن هم أفضل منه؛ سَعة علمٍ، وحِدَّة ذكاءٍ، ونصاعة بيانٍ، لا يستطيعون ارتقاءَ ذلك المنبر؛ لأنهم محجوبون عنه بِعلمهم وفَهمهم؛ عذرًا! أقصد: بانقطاع الوشائج بينهم وبين الجامعة.

إن من رأْيي أنَّ طَلَبةَ العلم المتقدِّمين، والممارسين للشعر والأدب - من الذين لم يتلطَّخوا بأدرانِ التغريب الحضاري، والتميُّع الثقافي، ولم يتشبَّعوا بوساوس الحَدَاثة الفكريَّة المتجرِّدة من كلِّ ضابط، والمتحرِّرة من كلِّ قيدٍ - عليهم أنْ يقتحموا على أهْل الجامعة جامعاتهم، ويحصِّلوا ما أمْكَنَهم من هذه الشهادات الأكاديميَّة العجيبة؛ فإنهم بذلك يسدون الطريقَ أمامَ كثيرٍ من العابثين بتُراث الأُمة، والوالغين في وعْيها وإدراكها الثقافي.

إنَّ كثيرًا من أصحاب الاتجاهات الفكريَّة الهَدَامَّة قد تفطَّنوا إلى هذا المعنى، فكوَّنوا داخِلَ الجامعات العربيَّة مجموعاتِ ضغطٍ - لوبيات بلغة الفرنج - تمتلِك مناصبَ حسَّاسة، يتوارثونها، ويدفعون عن مُزاحمتهم فيها كلَّ مَن ليس على شَاكِلَتهم في المنهج الفكري العام.

فلِمَ نُقصِّر نحن في هذا الْمَيدان، ونكتفي بالشكوى والنقْد؟ أمَا آنَ لنا أن نسعَى إلى تخريج أجيال جديدة من حمَلَة الشهادات الجامعيَّة، هم في الوقت نفسِه علماء راسخون، وأدباء متمكِّنون، فنكون قد رَدَمْنا الهُوَّة بين العلم والشهادة، ومَحَونا أثرَ الفصام بين العلماء وحاملي الشهادات.

هذا رأْيي في هذه المسألة، ومُلخَّصه: ألاَّ تحقرَ الشهادة!


[1] وقد قِيل قديمًا: "إنَّما يُفْسد الدنيا ثلاثة؛ نصف فقيه، ونصف طبيب، ونصف نحْوي؛ فالأول: يُفسد الأدْيانَ، والثاني: يفسد الأبْدانَ، والثالث: يفسد اللِّسانَ".
[2] إلاَّ النادر الذي لا حُكْم له، وما في الجامعة من خير فأصلُه من خارجها؛ مِن حِلَق العلم، ومجالس الذِّكْر التي لم تنقطعْ قطُّ، وما يكون لها أن تنقطعَ - بإذن الله تعالى.
[3] كقول الأديب علي الطنطاوي - رحمه الله - في مقال له بعنوان: (زفرة أخرى) ضمن كتابه "من حديث النفس"، ص (125): "فلماذا درستَ الحقوق إذا كانت الوزارة لا تعرفُ أقدارَ الرجال إلاَّ بما يحملون من شهادات الاختصاص، وكان صاحبُ الليسانس في الحقوق لا يُعد أديبًا في نظرِها ولو كان شوقي زمانه، أو رافعي أوانه، وترى صاحبَ الليسانس في الأدبِ أديبًا ولو كان أعيا من باقلٍ، وأجهلَ مِن جاهل؟!".
[4] أو حتى الذال؛ فالأولى لدرجة الدكتوراه، والثانية لدرجة الأستاذية، وقد يجمع بعضُهم بين الحرفين، فذاك - عند القوم - العَلَم الأوْحَد الذي لا يناقَش ولا يُنْتَقَد!

الأحد، 8 أغسطس 2010

خواطر من الحرمين


(1)
لو كانت الألفاظ قادرة على وصف المعاني كلها وصفا دقيقا، كما تتمثل في الأذهان، وكما تلوح في الخواطر، لما كان لأرباب الأدب، وأساطين البلاغة، فضل على غيرهم من عامة الناس. فما تميز هؤلاء، ولا تفردوا، إلا لأن اختيار الألفاظ والتراكيب التي تقرب المعاني المختلجة في الصدور، صنعةٌ تحتاج إلى ذهن شديد الصفاء، وبراعة محكمة، وجهد مكرث. فهي لذلك صنعة لا يتقنها إلا الأفذاذ من الناس.
ثم إن قصارى جهد هؤلاء الأفذاذ أن يقربوا المعنى إلى ذهن القارئ تقريبا. أما أن يأتوا به على وجهه كما تصوره صاحبه، فذلك ما لا سبيل إليه بحال.
وأما من دونهم من الذين يتكلفون الكتابة وليسوا من أهلها، فالأمر أعسر، والخطب أعظم.
وما علمت أن ألفاظي تخذلني في شيء المعاني، كما تخذلني إن أردت التعبير عما يدور بخلدي، وما يعتمل بمهجتي من المشاعر، حين تضمني رحاب الحرمين..
ولقد احتبست ألفاظي بعد مخاض طويل، حين أردت أن أصف شعوري خلال حجتي التي كانت منذ نحو تسع سنوات، فما سطرت سوداء على بيضاء.
وها أنا اليوم، أتجشم مثل الذي تجشمت من قبل .. وأمامي شاشة الحاسوب المضيئة، يغريني فراغها بالكتابة. فما أدري: هل يأتي المخاض بولادة مباركة، أم يتعسر الحال كما تعسر من قبل؟

(2)
كانت الساعة تقترب من الثالثة والنصف صباحا، حين انبعثت بنا سيارة الأجرة من مطار المدينة النبوية، تنتهب الأرض انتهابا، لا يحول بينها وبين الانطلاق – في هذا الوقت من السحر - شيء من زحام الطرقات.
وما لبثت أن بلغت إلى مشارف المسجد النبوي .. وإذا بالمصلين يتحركون أرسالا ليجيبوا داعي (حي على الفلاح)، وعلى سمتهم مسحة من الوقار، وفي همساتهم عبق من طهر الإيمان، وخطاهم الحثيثة تنساب نحو المسجد النبوي المتلألئ بأضواء الجمال والجلال، كما تنساب مياه الغدران نحو غاياتها التي كتبت لها.
وتلتفت يمينا وشمالا، فلا ترى إلا مقبلا على خير ..
وتصيخ بأذنيك، فلا تسمع فجورا ولا لغوا ..
وتستنشق الهواء بأقصى ما تحمله رئتاك، كأنك تحمل من هذا الهواء الطاهر، زادا تجلبه معك إذا رجعت إلى بلدك.
وتمشي حيث يمشي الناس .. وأبواب المسجد تفتح ذراعيها، لتحتضنك في عناق دافئ، ينسيك ما سلف من أيام الغفلة .. ولا تملك في هذا الحضن الرفيق، إلا أن تستسلم لنداء القلب المشحون، فترسل العنان لدموع تثج من مكامنها ..

(3)
لأي شيء تنهل دموعك يا صاحبي؟
ألأنك ذكرت ساعات الغفلة، التي أفنيت فيها زهرة شبابك، حتى مضت بك رواحل الأيام، تخب بك في فيفاء الحياة، إلى حيث لا رجوع؟
ألأنك تأملت حالك مع الدنيا المُطغية، فإذا بك تتحسر على ما التهمته من فلذات قلبك، وما سودته من صفحات مهجتك؟
ألأنك ذكرت الذنوب التي تناسلت في أركان بدنك وروحك، كما تتناسل الجراثيم المدمرة، حين يتاح لها شيء من العفن تقتات منه؟
ألأن فؤادك المكلوم ذاق حلاوة الطهر في تلك البقاع المنيفة، وتذكر مرارة الغفلة في الربوع التي تركها وراءه، فكرِه أن يُسْلمه ما يستقبل من أيامه إلى تلك الغفلة الخانقة .. وزاد من ألمه الممض أنه يعلم أن الرجوع حتم عليه، لا سبيل له إلى تنكبه .. فجزع لهذا الخاطر، كما يجزع المحكوم عليه بالقتل صبرا حين يقدم إلى جلاده.. ؟

لم تبكي يا صاحبي؟
ألمنظر هذه الجموع المشتاقة إلى الطاعة، المنتظمة في سلك التقرب إلى الله؟
ألصوت هذا النداء الرباني الذي يرتفع عاليا، يشق أديم السماء، فترتفع معه القلوب، مشتاقة إلى رضوان بارئها، متخلصة من قيود التراب؟
ألذكرى الصالحين الذين مروا من هذا المكان، الذي تطأ أرضه، وتستنشق أريجه؟
يا لها من ذكرى تتقطع من ملامستها نياط القلوب !
من هذا المكان، انبجست ينابيع الإيمان والحكمة، فطمت أرجاء المعمورة ..
في هذا المكان، قامت دولة الإسلام الوليدة، بين خلق من الأعداء يتربصون بها الدوائر، كما يتربص أحفادهم بالمسلمين اليوم .. فما زالت تلك الدولة تنمو على عين ربها، حتى تفيأ الكونُ ظلالها الوارفة ..
في هذا المكان، أنزلت آيات القرآن غضة طرية، ثم طبقت في المجتمع الوليد، على أبهى ما يكون من الصور، وأجمل ما يكون من الأحوال ..
من هذا المكان مر الخلفاء الراشدون، تحيط بهم هالة العدل، وتكتنفهم نسائم التقوى ..
من هنا مر الصحابة الأكرمون، والتابعون المبجلون، والأئمة المجتهدون ..
في هذا المكان كان الذي يتلقى الوحي من السماء .. بأبي هو وأمي .. سيد الخلق، صلى الله عليه وسلم ..

حق لك يا صاحبي أن تذرف دموعك هنا .. فالمحروم من يبست عيناه في مثل هذا المقام:


حُرِم الذي لم يسكب العبرات = في مسجد المبعوث بالرحماتِ


(4)
وعلى ذكر الحرمان والمحرومين، فقد جرى لي كلام مع بعض أهل البلاد، فعلمت أن منهم من يزور المدينة – على ساكنها أفضل الصلاة والسلام - والمسجدَ النبوي، لأول مرة في حياته ! ثم علمتُ من أناس آخرين – والعهدة عليهم فيما يزعمون – أن هذا ليس نادرا عند أهل بعض المناطق.
سبحان الله !
أليس المسجد النبوي من المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها؟
أليس الصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه – غير المسجد الحرام؟
وقد قست هذا إلى حال بعض الناس عندنا، ممن يحنون إلى زيارة الحرمين، فهم يصبحون على شوق، ويمسون على شوق. وتمتد أمامهم جبال من العراقيل، فإذا هم يعالجونها بما يضاهيها من الصبر، فلا يزالون في مغالبة ومدافعة، حتى يمن الله تعالى بالفرج، فلا تسل عن فرحهم يوم ينزلون من الطائرة، وتطأ أقدامهم أرض الجزيرة لأول مرة ..
قست حال هؤلاء إلى حال أولئك، فتعجبت من تباين الأحوال، بين من يُبذل له الشيء المرغوب سهلا ميسرا، فيعرض عنه؛ ومن يسعى إلى ذلك الشيء، ويكد في سعيه، حتى يكاد كيانه ينهد من شدة ما يلقى من الجهد.
ولكن ليس كل الناس يحسن تقدير ما يرفل فيه من النعم. وما ألذ التوفيق إلى شكر النعمة !
والحق أن الحرمان ألوان ..
فمن المحرومين أقوام رأيتهم في المسجد الحرام، في وقت السحر، يخوضون في قيل وقال، وأحاديث الدنيا، وما لا نفع يرجى منه غير تزجية الأوقات، حتى رأيت بعض من بجانبهم، يهجر جوارهم متأففا !
ومنهم نساء وفتيات في المسجد الحرام، يلبسن من الأثواب ما لا يشك أنه من الزينة المتعين سترها، وإن كانت تظنه حجابا أو كالحجاب. وما فائدة الحجاب إن كان فتنة؟ ثم لا تسلْ عن التغنج في الكلام، والتصنع في الحركات ! ولعل جلوس أمثالهن في بيوتهن أن يكون أولى بهن، وأسلم لهن في دينهن، من السعي إلى تلك البقعة الطاهرة على هذه الحال.
ومنهم رجل رأيته، فأنكرت منظره، وطال تعجبي من حاله: على بدنه إزار الإحرام ورداؤه، وفي كفه سيجارة ينفث من دخانها، بين خطوة وأخرى، وهو في طريقه إلى المسجد الحرام !
ومنهم أقوام من الموسرين عندنا، فتح الله لهم أبواب الرزق، وألبسهم من سرابيل العافية، ثم لا تجد الواحد منهم يخطر بباله حج ولا عمرة ! وقد يتعلل بكثرة الأشغال، لكنه إذا جاء موسم العطلة الصيفية، حزم أمتعته، واصطحب عياله، في رحلة إلى إسبانيا أو فرنسا أو غيرها من بلاد الغرب !
ومنهم أناس تتيسر لهم أبواب الحج والعمرة، في أموالهم وأبدانهم، فيسوفون لغير مسوغ، ويتأخرون لغير مبرر، حتى يأتيهم من العوائق ما يجعلهم يندمون على ما فرطوا، ولات حين مندم ! ولقد كنت أنصح بعضهم منذ سنوات بالمبادرة إلى هذا الخير، فيزورّ ويتأخر، حتى جاءنا نظام القرعة في الحج، فلقد رأيته بعدُ متحسرا محزونا.
ومنهم رجل من أهل العلم عندنا – لكنه على بدعة في العقيدة خطيرة – ذُكر لي عنه أنه حكى لبعض تلامذته عن بعض الصعاب التي لاقاها في حجه، ثم ختم حديثه بأن قال: (فلما رجعت إلى بلدي، ودخلت بيتي فرحا مسرورا، شرعتُ أقبّل جدرانه واحدا واحدا ..). فهل رأيت أعجب من هذا الحرمان؟

(5)
ما الذي يجعل للمسجد الحرام هذه الهيبة في صدور قاصديه؟ وما الذي يجعل للكعبة الشريفة هذا الجلال الذي يسحر ألباب الناظرين إليها، ويأخذ بمجامع قلوبهم؟
أتذكر يا صاحبي حين دلفت إلى داخل المسجد الحرام، تحثّ خطاك لتصل إلى مكان الطواف، والسواري أمامك تحجب عنك منظر الكعبة المنيفة، لكنها تتكشف مع كل خطوة تخطوها عن جزء يسير منها، فكأنها تشفق على قلبك الضعيف أن يفجأه ذلك المنظر المهيب، دون أن يسبق ذلك شيء من التدرج والاستعداد؟ حتى إذا انتهيت إلى محاذاة آخر سارية، وقفت تُفتّح عينيك إلى أقصى ما يطيقه جفناك، وتتأمل أفواج الطائفين حول الكعبة، منيبين مبتهلين، وضجيج أدعيتهم يملأ الأسماع.
ما أجمد العين التي لا تهمي عبراتها في ذلك الموقف ! بل ما أقسى القلب الذي لا يتفطر أمام هذا المنظر المتجذر في السمو؟
أتذكر يا صاحبي حين اندفعت إلى الحجر الأسود تشير إليه، وتبدأ طوافك حول الكعبة؟ ألم يخطر ببالك حينئذ عظيم نعمة الله عليك، إذ فتح لك أبواب التقرب إليه، ويسر لك أسباب الرحيل إلى بيته المحرم؟
كم كانت جمةً – يا صاحبي - تلك العراقيل التي انتصبت أمامك لسنوات طوال، فصرفتك عن هذا الخير العميم. فلما صدقت اللجأ إلى مولاك الكريم، انزاحت عنك كلها في طرفة عين كما تنجاب الغيمة، إذا خرقتها أشعة الجوناء.
أتذكر يا صاحبي حين وقفت على الصفا تلهج بالأدعية المأثورة وسط جموع الداعين، وفي ذهنك سؤال يلح عليك، حتى يكاد يصرفك عن كثير من الخشوع: قد خلفت وراءك أقواما لست بأحرص منهم على بلوغ هذا المقام، ولا هم بأقل شوقا منك إلى نيل هذا الفضل الجسيم. فكيف اختارك الكريمُ دونهم، وأسبغ عليك هذه النعمة وأخرهم عنها – ولو إلى حين؟
أما تخشى أن يكون هذا امتحانا، يرى فيه كيف تصنع؛ فتنجح فيه إن أحسنت شكر هذه النعمة، وترسب – والعياذ بالله – إن رجعت إلى بلدك، وليس عليك شيء من آثار الشكر؟
وتنطلق يا صاحبي نحو المروة تسعى، وفي قلبك عزيمة على خوض الامتحان – يسر الله أسباب النجاح ..

(6)
ما أصدق من قال: (رب أخ لك لم تلده أمك).
ذكرت هذا حين التقيت قرب المسجد الحرام الشيخ الكريم عبد الرحمن بن عمر الفقيه الغامدي الأزدي، كان الله له بإحسانه.
وقد كان الشيخ الفقيه في ذهني، لما يقرب من العقد من الزمان، اسما على صفحات ملتقى أهل الحديث، لا صورة ترافقه. لكنني أحببت هذا الاسم، وتعلق قلبي به، كما لو كان الرجل من الخلان الذين أجالسهم كل صباح، وكل مساء.
ولا غرو، فقد عشت مع كلمات الشيخ، وموضوعاته، وردوده، ورسائله. وعايشت مشروعه الجليل: (ملتقى أهل الحديث) منذ أن ولد، إلى أن نما واستوى على سوقه، يعجب طلبة العلم وأهل السنة والجماعة، ويغيظ المبتدعة الأصاغر.
وقد بلغ من تعلقي بالشيخ خلال السنوات الأخيرة أنني كنت في كثير من الأحيان، أضع رأسي في الليل على الوسادة، وأتخيل أنني في مكة، أجالس الشيخ الفقيه، وأجاذبه أطراف الأحاديث.
فلا والله ما كان شخص الرجل بعد اللقاء إلا أعظم وأجل وأكرم، من كل ما كنت أتخيله – وإن كان هو في خيالي من قبل عظيما جليلا كريما.
ثم التقيت بعد الشيخ عبد الرحمن بأخيه الشيخ خالد، فوجدت منه ما وجدت من أخيه: علم وحلم وحكمة وأناة وكرم، وأخلاق هي أخلاق أهل الحديث حقا.
ولقد ذاكرت أحد أحبتي بعد رجوعي إلى المغرب، وكان قد سبقني إلى لقاء الشيخين. فلما أخبرته بما رأيت منهما، قال لي:
-''وهل رأيت أباهما؟''
فقلت:
-''لا، ما قدر لي أن أراه''.
فقال:
-''لو رأيته، لعلمت من أين جاءهما ما أعجبك''.

قد كنت أسمع عن جود الرجال فما = أظنه غير أخبار من الكذبِ


حتى رأيت الفتى الأزديَّ يكرمني = فشمت من جوده ضربا من العجب


ويقتفيه أخوه اللوذعيُّ فما = زال الندى من فعال القوم في تعب


(7)
التقيت في المسجد الحرام بين صلاتي المغرب والعشاء ذات يوم، الأخ الكريم عبد الرحمن الجار الله، فكانت جلسة طيبة، تذاكرنا فيها شيئا من الفقه والأصول. ورأيت من أريحية الرجل ما يسُر.
وقد كان من أفضل ما استفدته منه خلال هذا اللقاء: سلام عطر من الأخ الكريم الشيخ عبد الله العتيق، وأخبار طيبة عن الأخ الكريم الشيخ زياد المطيري.
ولقد وددت – والله – لو كانت لي أجنحة توصلني إلى بلاد نجد، بلا تأشيرة ولا جواز، فألتقي بالرجلين الفاضلين، وبغيرهما من أهل الخير في تلك الأصقاع.

(8)
زرت خلال مقامي بمكة – بمبادرة كريمة من الشيخ عبد الرحمن الفقيه - الشيخَ المحدث عبد الوكيل بن عبد الحق الهاشمي. وكانت جلسة طيبة مفيدة، تخللتها بعض الأخبار عن مجالس السماع، ما عقد منها وما هو في طور الإعداد.
وقد تفضل الشيخ الفقيه فاستجاز لي من الشيخ الهاشمي، فأجاب الطلب، وأجازني إجازة عامة بجميع ما يسوغ له التحديث به وروايته، وسلمني الإجازة المكتوبة، وفقه الله تعالى لمرضاته.
ثم وفقني الله تعالى في يوم آخر إلى زيارة الشيخ الفاضل المحقق محمد عزير شمس – حفظه الله تعالى – في رفقة الشيخ عبد الرحمن الفقيه.
والشيخ محمد رجل محبب بشوش، يدخل قلب محاوره بغير استئذان. وقد كانت الجلسة في موضوعات شتى، منها: وصف الشيخ لزيارته الأخيرة لبلاد المغرب، وشيء من الكلام على كتب ابن تيمية وابن القيم – والشيخُ بها خبير -، وتحقيقات الشيخ التي تصدر عن دار عالم الفوائد، ونحو ذلك. وقد اشتكيتُ إلى الشيخ من عدم وصول هذه التحقيقات إلى المغرب، ولكن يبدو أن المشكل ليس له حل في الوقت الراهن.
وقد حضر الجلسة أحد الدعاة السلفيين، اسمه عبد الغفار، وأصله من بلاد الهند. وقد حدثنا عن شيء من أحوال أهل السنة في تلك البلاد مع البريلوية المبتدعة، وتعصب القوم هناك على السلفية وأهلها.
ثم وفقني الله أيضا، فحضرت مجلسا طيبا بدار آل الموجان العامرة. وكان لي مذاكرة طيبة مع الشيخ عبد الرحمن بن حسين الموجان، عن موضوع رسالتي للدكتوراه، وعن بعض كتب المالكية التي تحقق في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، وهموم نشر الكتب التي تحقق في الجامعة، ونحو ذلك.
ثم ذاكرت الشيخ الدكتور عبد الله بن حسين الموجان – حفظه الله تعالى - واستفدت من علمه الجم، وأخلاقه الرفيعة، وفكره المعتدل. واكتشفت أن له زيارات كثيرة إلى المغرب، وأن له به وبأهله معرفة بالغة.
وقد تفضل بإهدائي بعض مؤلفاته وتحقيقاته النفيسة، جزاه الله أفضل الجزاء.
وعلى العموم، فقد عرفت من آل الموجان في تلك الجلسة، علما، وكرما، وفضلا؛ زادهم الله من توفيقه.
وكانت هنالك لقاءات أخرى مفيدة نافعة، لا أنشط لوصفها جميعها.

(9)
وقد خبرت خلال زيارتي هذه لبلاد الحرمين، ما للإلف والعادة من ثقل في النفوس.
فمن ذلك أنني جربت أن ألبس (الغترة) لأكون موافقا للباس أهل البلد، ولا أتميز بلباسي المغربي عنهم.
ولكن رأسي ما قبل ذلك، ولا استمسكت (الغترة) فوقه !
فإذا سجدت سابقَتني إلى موضع سجودي فأنشغل بإماطتها، وإذا ركعت كان مبلغ همي أن أنشغل بإصلاحها لكي لا تفر من فوق رأسي، وإذا هب نسيم ألوت هاربة فتتبعتها كفي، لكي لا تطير فينكشف ما تحتها – والعهد بحلق العمرة قريب - !
ولقد أطلت التعجب من القوم، كيف يفعلون مع هذا الثوب العجيب؟ !
ولكن صدق من قال: (لكل امرئ من دهره ما تعودا) !
وإذا كان رأسي لم يقبل (الغترة)، فإن لساني ما استساغ (القهوة العربية)، بل ما أطقت رائحتها، ولا وجدت لها في فمي مسلكا.
وقد اتهمت نفسي، لما رأيت القوم يحبونها، ويستزيدون منها، فسألت بعض من لقيت من أهل المغرب، فثبتوني على رأيي، وآنسوني في ذوقي. و(للناس فيما يعشقون مذاهب).

(10)
آه ما ألذ تلك اللحظات .. وما أطيب تلك السويعات ..
ولولا أمل الرجوع، لكانت أوجاع الموت أيسر من آلام الوداع ..
فاللهم لا تحرمنا من أوبة تقضى بها الحوبة، ومن رجوع إلى ذلك المقام يعجل بمحو الذنوب والآثام.
والحمد لله، وصلى الله على رسول الله، وعلى آله وصحبه.


البشير عصام


27 شعبان 1431

الاثنين، 26 يوليو 2010

بعض أسباب الفتاوى الشاذة

لا يختلف اثنان من أهل الإسلام في خطورة منصب الفتوى، وعظيم شأنه عند الله وعند الناس. وكيف لا يكون كذلك، وهو مقام التوقيع عن رب العالمين؟ و(إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟))[1](.
والمفتي مخبر عن الله عز وجل، ونائب عن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، في تبليغ الأحكام الشرعية للأمة. وقد اجتمع فيه مقامان عظيمان في الدين، هما: مقام الاجتهاد، ومقام التعليم والإرشاد. فالأول لتحصيل الحكم الشرعي في النازلة المعروضة، والثاني لبث هذا الحكم، وتبليغه إلى خصوص السائل، أو عموم الأمة.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن بين المفتي والقاضي تفاوتا في عظم خطورة المنصب، فالقاضي أعظم خطرا من جهة كون حكمه تستباح به الفروج والدماء والأموال، على جهة الإلزام، بخلاف حكم المفتي فلا إلزام فيه. لكن المفتي أعظم خطرا من جهة حكمه عاما، لا يختص بفرد أو جماعة معينة، بخلاف حكم القاضي فهو جزئي مخصوص.
ولما كان هذا المنصب بهذه المرتبة السنية، كان تشوف عامة المسلمين – قديما وحديثا - إلى أهله عظيما، وحاجتهم إلى ما يصدر عنهم من الفتاوى والأبحاث جليلة. فحاجة المسلم إلى الفتوى التي تبين له حكم الله، وترشده إلى الحق الذي ينبغي سلوك طريقه، وإلى الباطل الذي ينبغي تنكب سبيله، كحاجته إلى الشراب والغذاء اللذَين بهما قوام بدنه، بل كحاجته إلى الهواء الذي به استدامة حياته. بل لو قيل: إن الحاجة إلى الفتوى أعظم من الحاجة إلى هذا كله، لم يكن بعيدا عن الصواب الحقيق بالقبول، إذ بالفتوى تقوم الأديان، وبها يتقرب المكلف إلى ربه، بفعل ما يحبه، وترك ما يبغضه، فيسلك إلى ما فيه سعادة الدارين.
والمسلمون في هذا العصر لا يخرجون عن هذا الأصل، فهم – في أغلب أحواهم - متشوفون إلى أهل الفتوى، حريصون على معرفة أحكام الله عز وجل. وإذا كان منصب القضاء الشرعي مغيبا في أكثر بلاد الإسلام، فإن منصب الفتوى موجود، وكثير من الذين يعتلونه هم من أهله القائمين بحقه أحسن قيام، وإن كان منصبا مفتوحا أيضا لبعض من ليس بينه وبين العلم الشرعي كبير اتصال.


***

وقد انشغل الناس في السنوات الأخيرة، بطائفة من الفتاوى الشاذة العجيبة، التي يصدرها - بين الفينة والأخرى - بعض المتصدرين قبل تمام التأهل العلمي، ما بين داعية، وواعظ،)[2]( وطالب علم مبتدئ، ومفكر، وكاتب في الصحف السيارة، وأمثال هؤلاء ممن لا ينبغي أن تؤخذ الفتوى العلمية من أحدهم، في نقير ولا قطمير.
وهذه الفتاوى الشاذة – إذا قورنت بمجموع ما يصدر من الفتاوى المنضبطة - قليلة جدا في عددها، ولكن الضرر بها كبير جدا. وما ذلك إلا بسبب ما يحدث إثر صدورها من أخذ ورد في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، حتى يصبح النقاش فيها حديث المجالس، تلوكه الألسنة والأقلام، بعلم حينا، وبجهل أحيانا !
وقد صار لخروج هذه الفتاوى، وعرضها على الرأي العام، عادة مألوفة لا تكاد تتخلف. تبدأ بفتوى مغمورة لبعض المنسوبين إلى العلم أو الفكر، في موقع على الشبكة أو صحيفة قليلة الانتشار. ثم يتكفل بعض أهل الإعلام بنشر الفتوى على وسيلة إعلامية مشتهرة، من صحيفة ذائعة الصيت، أو قناة فضائية يتتبعها ملايين الناس. ويتبرع هذا الصحافي بأن يزيد للفتوى المنشورة سباقا من الإثارة، ولحاقا من التشويق، وقد يزيد – ضغثا على إبالة – فيعقد للفتوى لقاء فكريا، يستدعي له بعض المعارضين، وبعض الموافقين. واسمع حينئذ ما شئت من عصارات الفكر، وأعاجيب التأصيل، ونوادر البراهين؛ في قالب حواري يزري بما يدور في أعرق المجالس النيابية العالمية !
ثم تنتقل الفتوى بعد ذلك إلى الشبكة العنكبوتية، وتأخذ حقها من التجاذب والتناطح. وقد تعرض على كبار أهل العلم، فيتكفل بعضهم بما تيسر من البيان العلمي، وفق الميثاق الذي أخذه الله تعالى على العلماء الربانيين؛ وإن كانت أكثر هذه الردود العلمية، لا تتداول إلا في صفوف طلبة العلم، ولا تكاد تجد طريقها إلى وسائل الإعلام.
وتمر الأيام والليالي، فلا يبقى من هذا كله في أذهان الناس إلا أن خلافا فقهيا جديدا قد استحدث بعد أن لم يكن، وأن ما لم يكن يخطر ببال العوام إمكانُه في الشرع الحنيف قد صار الآن عندهم من مسائل الخلاف، التي تتنوع فيها الأنظار ما بين متشدد ومتساهل.
وقد يداعبك بعض هؤلاء العوام - حين يأتي ذكر المسألة - بابتسامة ماكرة ويقول: (والخلاف رحمة !).

***

وقد تأملت في السبب الذي يهوّن لبعض هؤلاء المفتين، إخراج مثل هذه الفتاوى العجيبة، فتبين لي أن الأسباب كثيرة جدا، ومتنوعةٌ تنوعَ المؤهلات العلمية، والمكونات الفكرية، والأحوال النفسية، لهؤلاء المتصدرين.
ولكنني ارتأيتُ أن أذكر بعض ما تيسر، وللقارئ أن يزيد من ذلك ما يظهر له.
فمن أهم الأسباب ضعف الملَكة الأصولية، بل قلة الاطلاع على كتب أصول الفقه، وندرة الممارسة لقواعده. ومن المعلوم أن علم أصول الفقه هو الأساس الذي يبتنى عليه علم معرفة الحلال والحرام. والذي يتصدى للفتوى والبحث الفقهي، وهو عريّ من هذا العلم، كالذي يخرج إلى ميدان الوغى بغير سلاح، يوشك أن يولي على عقبيه، مهزوما لا يلوي على شيء. أو هو كالذي يبني العمارة المأهولة الشاهقة، على أساس مائي غير متماسك، يوشك بناؤه أن يخرّ بمن فيه، فيصير أثرا بعد عين.
وقد ذكر جماعة من الأصوليين أن الفقيه الحافظ للأقوال والمذاهب لا يعتد بقوله إلا إن كان مجتهدا، بخلاف الأصولي المتمكن من فنه، فإنه يعتبر خلافه وإن كان غير حافظ للأحكام.
والحق أن هذا الضعف الأصولي لا يظهر عند هذا المفتي المسكين، ما دام منضبطا في إطار مذهب فقهي معين، أو ملتزما بما عليه جمهور الفقهاء، أو متقيدا بالمشهور العلمي في مجتمعه، وهو الذي عليه كبار شيوخ ذلك المجتمع. وذلك لأنه في هذه الحالة، لا يتجاوز نقل ما حفظه، وبث ما سمعه.
ولكنه إذا تكلف عناء البحث المستقل، وكابد مشقة الاجتهاد، لم يلبث أن يقع على أم رأسه، ويخبط خبط العشواء في الظلماء. فتراه يستدل بما لا يصلح أن يكون دليلا إلا عند جماعة المجانين والمبرسمين، ويستنبط بفهمه السقيم من النص ما لا يدل عليه من قريب ولا بعيد، ويرد أفهام العلماء الربانيين، التي صقلها علم أصول الفقه، وهذبها إدمان النظر في استنباطات الفقهاء والأصوليين؛ بفهمه الذي لا رسن له، يكبحه عن الجماح في أودية الباطل.

***

ومن الأسباب أيضا أن بعض هؤلاء تلقف بعض القواعد الأصولية العامة، فجعلها شعارا له في بحثه، وإن لم يتقن مصادرها ومواردها، ولم يعرف قيودها وضوابطها. فهو يعمد إلى القاعدة الصحيحة، فيظلمها باستعمالها في غير محلها.
وأكثر هذه القواعد ظلما: قاعدة مراعاة مقاصد الشريعة، وقاعدة المصالح والمفاسد.
والكلام في بيان الإعمال الصحيح لهاتين القاعدتين، يطول جدا، ولا يحتمله هذا المقال المختصر. ولكن يكفيني هنا أن أقول: إنهما – على ما لهما من شأن عظيم، ومنزلة خطيرة – لا يمكن الاستغناء بهما عن سائر القواعد الأصولية. بل لا يكون إعمالهما إلا للمتبحر في الفقه وأصوله، الذي بلغ فيهما درجة عالية، هي درجة الاجتهاد أو ما يقرب منها.
ولا ينقضي عجبي حين أرى بعض العوام أو الطلبة يتكلمون في المقاصد الشرعية، ويستشهدون ببعض كلام الإمام الشاطبي، وهم لمّا يدرسوا بعد ورقات إمام الحرمين في أصول الفقه، فضلا عما فوقه من المتون والكتب الجامعة في هذا الفن !
وهذا السبب يلتقي – عند التحقيق - بالسبب الأول، لأن سوء استعمال القاعدتين من ضعف الملكة الأصولية عموما.

***

ومن الأسباب أيضا حب الظهور بمظهر المعتدل أمام عوام الناس لجذبهم إلى الالتزام بالشريعة.
وقد يكون هذا المقصد صحيحا في نفسه، ولكنه لا يبيح بحال تمييع الدين، وتحريف أحكام الشرع.
ولأجل هذا المقصد حلق جمع من الدعاة لحاهم، وظهروا بالملابس الشبابية الخفيفة، وخلطوا في مجالسهم بين النساء والرجال !
ولأجله غيّر جمع من الوعاظ أساليب خطابهم الدعوي، حتى ما عاد عندهم شيء هو حرام أو لا يجوز، وإنما: فيه خلاف .. والأفضل أن .. وليتك تفعل .. !
ولأجله صار بعض المنسوبين للدعوة أو العلم يجاهر بفعل المعاصي التي كان العامي الملتزم يستحيي أن يذكرها عن نفسه منذ عقد من الزمان أو عقدين ! وقد قرأت بعيني كلام عالم يذكر عن نفسه سماع فلان وعلان من أهل الطرب، ومشاهدة فلان من أهل المسرح والتمثيل ! وسمعت بأذني كلام (داعية) يتعمد ذكر عناوين الأفلام والمسلسلات الأمريكية، ويذكر عن نفسه أنه يشاهدها !
ولأجل هذا المقصد أفتى أحد الجهلة – فيما نُقل - بإباحة القبلات بين المراهقين والمراهقات في الأماكن العامة، وأن الحجاب عادة وليس واجبا؛ وأفتى آخر بجواز استعمال الأدوات الجنسية قبل الزواج، وبجواز شرب المرأة المتوحمة الخمر !

ويتأكد هذا المعنى، إذا كانت الفتوى في شيء عمت البلوى به، حتى نشأ عليه الصغير، وشاب عليه الكبير. فحينئذ يصعب على المفتي المسكين أن يخالف المألوف المتداول بين عوام الناس، لما في تلك المخالفة من مجاهرتهم بما لا يرتضونه، ومجابهتهم بما لا يحبونه. فلا يزال الواقع الطاغي يضغط على المسكين، حتى يجعل نفسه منفصمة بين سبيلين متناقضين، لا يملك الجمع بينهما: موافقة الشرع وإرضاء الناس.
ثم لا يلبث أن يجد في قول فقهي شاذ مرذول، ما يمكّنه من هذا الجمع، ولو بهدم بناء الاستدلال الفقهي من أصله. فإذا به يطير بذلك القول فرحا، ويبثه في الناس متهللا محبورا.
وأفضل مثال على هذا: مسألة المعازف، فإن الأدلة من الكتاب والسنة على تحريمها من القوة بمكان، وفي التحريم إجماع - أو ما يشبه الإجماع، في أقل الأحوال. ومع ذلك تجد بعض المعاصرين يستميتون في الاستدلال على الإباحة، فيحشدون كل غث من الأقوال، ويتشبثون بكل شبهة يجعلونها دليلا قائما، ويردون كل دليل يخالف هواهم بالاحتمالات العقلية البعيدة.
ولست أشك أن مرجع هذا كله، إنما هو إلى انتشار المعازف في هذا الزمان انتشارا بالغا، حتى لا يكاد يسلم منها مكان. والدليل على ذلك أنهم يحرمون بعض الأشياء التي يكون دليل تحريمها أضعف من دليل تحريم المعازف بكثير.

***

ومن الأسباب أيضا حب المخالفة، لأنها - فيما يحسب المسكين - دليل القوة العلمية، والتميز المعرفي، وذلك على قاعدة (خالف تُعرف) !
''فإنما يقلد الجاهل، وإنما يجتهد العالم !''
''وإذا أنا خرجت من إسار المألوف العلمي في البيئة الذي أنا فيها، وتركتُ تقليد الشائع المتداول، فما ذلك إلا لقوة مداركي العلمية، وجرأتي الفكرية !''
وقد يصرح بعضهم بادعاء الشجاعة في هذه المخالفة، فيقول مثلا: (هذا القول الذي أتبناه، يراه غيري من العلماء، ولكنهم لا يجرؤون على إظهاره).
ومثل هذا يقال له: إن صح ما تقول – ولا سبيل إلى التحقق من ذلك - أفلا سكتّ كما سكتوا؟

***

ومن الأسباب أيضا أن بعض الدعاة والخطباء قد وقع لهم انفتاح سريع على الغرب، وعلى حضارته الأخاذة، التي تبهر الألباب، وتأخذ بمجامع القلوب؛ وذلك إما عن طريق السفر للدعوة ونحوها، أو عن طريق وسائل الاتصال الحديثة، من قنوات فضائية وشبكة عنكبوتية ونحو ذلك.
وقد كانوا قبل ذلك في بيئة منغلقة، شددوا فيها على أنفسهم، دون أن يكون ذلك عن علم راسخ، ولا فقه رصين؛ فلما انفتحوا على غير بيئتهم الأصلية، أفضى بهم ذلك إلى نوع من التحلل، والانسلاخ من القيود، وصاروا يسبّحون بحمد الغرب تأصيلا وتفريعا.

***

والكلام في هذه الأسباب وغيرها يطول بنا جدا.
ولكن ما السبيل إلى قطع الطريق أمام هؤلاء المفتونين، الذي يخرجون علينا بهذه الفتاوى الشاذة الغريبة؟
أعظم سبيل إلى ذلك أن ينشر في الناس أن يأخذوا فتاواهم من أهل العلم المعتبرين، ويجتنبوا فتاوى المرتزقة وأنصاف المثقفين.
وأمام هذا الإرشاد والبيان عقبات وإشكالات، ولهذه الإشكالات حلول مقترحات.
ولكن ذلك يأتي في حديث مقبل إن شاء الله تعالى.

14 رجب 1431






1- إعلام الموقعين (2/17).

2- المقصود بهذا من كان متصدرا للدعوة والوعظ دون أن يكون من أهل العلم. وما أكثرهم !