الاثنين، 12 نوفمبر 2007

يا أيها المغبونُ


الذكر عيشٌ للفؤاد، وتركه = في النائباتِ هو الحِمامُ الفاجعُ

إن مرَّ يوم ما ذكرت الله فيـ = ـه فذاك عند العدِّ يوم ضائعُ

ما لي أراك غفلتَ عن ربٍّ كريـ = ـمٍ، فضله بين الورى متتابع؟

يا أيها المغبونُ ! تنسى ذكر ربـ = ـبٍّ أنت في نعماه دهرك راتعُ

2 ذو القعدة 1428

الأربعاء، 17 أكتوبر 2007

يا أيها البطل المغوار



كفكِف دموعًا جرت في الخد كالوادي = وارفع جبينك، إذ تُنمى لبغدادِ


وانس المراثيَ، قد ولّت مجالسها = واقرأْ من الفخر ما يحلو لإنشاد


ما ذا زمان البكا ! فانفض دموعك وانْـ = شُر في الفضاء لحونَ القائد الحادي


أنت الإمامُ لنا، تروي محافلُنا = من طيب ذكرك ما يزهو به النادي


أنت الضياء الذي من نوره قبسٌ = للسائرين، وأنت الكوكبُ الهادي


يا قدوةً للذين استُضعفوا حقبًا = ملوا من القهر، واشتاقوا لأمجادِ


عدتْ عليهم ضباع الكون قاطبةً = وهم أسودُ الشرى تغلي بأحقاد


حتى رأوا فيك – والإظلام يكنفهم - = نارا على علم تبدو لمُرتاد


علّمتهم أن عيش الذل ما اكتملتْ = رياه قطّ، ولا دامت لمنقاد


علمتهم أن طعم العز في أسل = ظمأى، وجرد عتاق تملأ الوادي


النصر في مدفع يَرمي الحتوفَ، وليْـ = ـسَ اليومَ في صُحف تتلى وأوراد


الفتح في ساعدٍ يشتدّ، لا خطب = تروي حكايات آباءٍ وأجداد


المجد في سهر الليل البهيم على = ثغرٍ يعدّ التَّوى فيه لأوغاد


يُرمون فيه بضرب لا انكسار له = يُصمي الأعادي، ويروي غُلة الصادي


وتلتقي فيهم الأسياف مصلتة = فيها فراقٌ لأرواح وأجساد


علمتهم رفع هامٍ طالما انبطحتْ = للظالمين، لأحقابٍ وآباد


علمتهم شرب كأس العز مترعةً = وإن أديرت بتشريد وإبعادِ


علمتهم أن توحيد الإله يُنا = في ذلةً لطواغيت وأنداد


هذي المهانةُ معْ توحيد خالقنا = - عند التدبر – جمعٌ بين أضداد


أسمعتَهم بلسان الفعل تذكرةً = تغنيهم عن مواعيظ وإرشادِ


حتى مضوا ينشدون الفجر مؤتلقًا = تزول من نوره غفْلاتُ رُقّاد


وأقبلوا ينثرونَ البشرَ في أملٍ = واستبدلوا بالبكا، ترنيمة الشادي

يا أيها البطل المغوارُ: دمتَ لهم = ليثا هِزبرا، وطودًا بين أطوادِ

شوال 1428

السبت، 13 أكتوبر 2007

يا رب فرج كربتي ..


يا رب فرج كربتي = يا رب واغفر حوبتي

قد مسني ضر الهوى = فاكشف غياهب غفلتي

إن كان فعلي آثما = فالحزن عمّر مهجتي

فلعل حزني نافعي = والحزن أول توبتي

السبت، 11 أغسطس 2007

ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ..

الحمد لله
مما اشتهر على الألسنة قول الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد في معلقته:
ولولا ثلاث هن من لذة الفتى *** وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبق العاذلات بشربة *** كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف محنبا *** كسيد الغضا ذي الطخية المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب *** ببهكنةٍ تحت الطراف المعمد

(ينظر شرح الأبيات في شروح المعلقات).

وأعجب الشعراء بهذا المعنى، فعارضوه بما تيسر.
وكان منهم ابن أبي الحديد المعتزلي الرافضي فقال:
لولا ثلاث لم أخف صرعتي *** ليست كما قال فتى العبدِ
أن أنصر التوحيد والعدل في *** كل مكان باذلا جهدي
وأن أناجي الله مستمتعا *** بخلوة أحلى من الشهد
وأن أتيه الدهر كبرا على *** كل لئيم أصعر الخد
لذاك لا أهوى فتاة ولا *** خمرا ولا ذا ميعة نهد

وتذكرت حين قرأت كلام هذا الرافضي ضمن ترجمته في مقدمة تحقيق كتاب (الفلك الدائر على المثل السائر)، ما أثر عن الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه، أنه لما حضره الموت، قال: انظروا أصبحنا؟ فأتى فقيل: لم تصبح، فقال: انظروا أصبحنا؟ فأتى فقيل له: لم تصبح حتى أتى في بعض ذلك فقيل: قد أصبحت، قال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار. مرحباً بالموت مرحباً، زائر مغب، حبيب جاء على فاقة. اللهم إني قد كنت أخافك فأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب، عن حلق الذكر).

ثم تجشمتُ محنة القول، فقلتُ:
لولا ثلاث لم أبال بميتتي *** ليستْ كما زعم الفتى البكري(1)
بسطيْ الكتابَ أمام عينِي مونقا *** تُدني صحائفُه جنا الفكر
ومجالسٌ للعلم فيها يُنتقى *** خير الكلام وأفضل الذكر
ودعاء ربي - حين يرقد غافل - *** مستمتعا بنسائم الفجر.

(1) : طرفة بن العبد من بكر بن وائل.

الأحد، 5 أغسطس 2007

في معنى قوله تعالى: (ويستحيون نساءكم)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
اشتهر عند كثير من أهل الوعظ والخطابة، إيرادهم لفظة (يستحيون) بمعنى: (ينتهكون الأعراض)؛ فيقول قائلهم مثلا عن اليهود أو الصليبيين وما يفعلون بالمسلمين: (يقتلون أولادهم ويستحيون نساءهم)، ونحو ذلك.
وهذا الصنيع يوهم أن هذا معنى اللفظة في القرآن الكريم، والحال أن معناها عند جمهور المفسرين: (يستبقون نساءكم فلا يقتلونهن).
فالاستحياء استفعال يدل على طلب الحياة، كالاستبقاء (طلب البقاء) والاستسقاء (طلب السقي). وفي لسان العرب: (واستحياه أبقاه حيا وقال اللحياني استحياه استبقاه ولم يقتله، وبه فسر قوله تعالى ويستحيون نساءكم أي يستبقونهن).
وفي معنى اللفظة في القرآن قول آخر، وهو: (يفتشون حياء المرأة - أي فرجها - هل بها حمل أم لا). وفيه نظر.
نعم، قد يقال إن الاستحياء بمعنى الاستبقاء في الحياة قد يستلزم الاعتداء على العرض. وقد أبدع ابن عاشور – رحمه الله - بقوله:
(ووجه ذكره – يقصد لفظة الاستحياء - هنا في معرض التذكير بما نالهم من المصائب: أن هذا الاستحياء للإناث كان المقصد منه خبيثاً، وهو أن يعتدوا على أعراضهن، ولا يَجدن بداً من الإجابة بحكم الأسر والاسترقاق، فيكون قوله : (ويستحيون نساءكم) كناية عن استحياء خاص، ولذلك أدخل في الإشارة في قوله: (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) ولو كان المراد من الاستحياء ظاهره لما كان وجه لعطفه على تلك المصيبة).
قلت: فيصح أن يقال إن لفظ الاستحياء في الآية كناية عن انتهاك العرض بعد الاسترقاق، مع كون المعنى الحقيقي للكلمة (وهو الإبقاء في الحياة) غير منفي.
ولا يصح إيقاع اللفظ بهذا المعنى في غير تلك الحادثة المزبورة في القرآن، إذ ليس في ما يتحدث عنه أولئك الخطباء ما يصح معه إثبات المعنى الأصلي للكلمة.
زد على هذا، ما يترتب على فعلهم من لبس في معنى الآية، حتى صار كثير من العوام يفهمونها على غير وجهها.
والله أعلم.

الجمعة، 13 أبريل 2007

أصول البلاغة النبوية

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد،
فقد كثرت في الأيام الأخيرة فلول الشانئين الأصاغر، المتعرضين لمقام الحبيب صلى الله عليه وسلم، بالعيب والثلب، وهم أحق به وأهله. وقد تجمعوا بقضهم وقضيضهم، وأجلبوا بخيلهم ورَجلهم، وستروا قبيح قصدهم، بمسوح من الحرية المزعومة طورا، وحق التعبير طورا آخر، وإن هو إلا الحقد المتأججُ أواره، منه استمداد فَعالهم، وإليه مرجع أقوالهم، وعليه مدار فكرهم – إن صح أن لأمثالهم فكرا !
وقد قدح زنادَ ذاك الحقد – قديما ولا يزال – جهلٌ غُدافي الإهاب، هم فيه سادرون، قد غرقوا في غَمرته، بل عُجنوا من طينته، فهم منه في عَماية، حجبتهم عن الصواب، فلا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا.
وقد قيل قديما: (المرء عدو ما يجهل).
وإن من أعظم ما يجاهَد به هؤلاء الحاقدون المتربصون ويُجالَدون، أن تنصب أمام أعينهم الكليلة موائد العلم، بلألائها الفتان، ونورها البراق، لعلها تُفَتّق منهم تلك البصائر العشواء.
على أهل العلم في هذه الأمة الفاضلة الخيرة، أن يعرضوا على الناس، صورة ذلك الحبيب المبعوث رحمة للعالمين، فيربطوا بين الخلق وبين هاديهم ومرشدهم، بوشيجة من المعرفة الوثيقة التي تثمر محبة صادقة، تنبت من بذرتها شجرة إيمان راسخ.
ومن أراد سلوك هذا السبيل من دعاة الأمة وعلمائها – أعني سبيلَ التعريف بالحبيب عليه الصلاة والسلام – فلَيجدنّ من القول متسعا، بل لتتشعبن به فروع القول، حتى يحتاج إلى أرسان من قواعد المنهج، يضبط بها جماح الكلام.
فإنك مهما شئت أن تلمس تجسيدَ خصلة من خصال الخير، أو صفة من صفات الكمال الإنساني، فإنك في رسول الله صلى الله عليه وسلم واجدُها في أبهى صورها، وأكمل حالاتها.
وقد جعلت من وُكدي، أن أنهدَ إلى جانب من جوانب هذا الكمال البشري المتمثل في شخصية النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم؛ وهو جانب الفصاحة والبلاغة.
وإن الهيبة لتسطو بالنفس، وتأخذ بتلابيبها لتأطرها عن ركوب هذا البحر الغطمطم الذي يخشى الضياع في خضمه !
وإن الخشية لتتملك أرجاء الفؤاد حين يهم بسلوك هذا المهْيع الفسيح الشائك الذي لا تؤمن فيه العثرة والزلة !
وكأني بك تسأل بإنكار: أحقا تبغي بألفاظك الكليلة أن تصف أشرف الألفاظ؟
أم تُراك قد زينتْ لك جراءةُ نفسك أن تكلف يراعك الذليل من أمره شطط الكتابة عن خير ما خطه يراع؟
أم لعلك تروم أن تحدثنا بكلماتك عن خير كلمات فاه بها رجل من البشر؟
ولست متكلفا لسؤالك جوابا؛ غير أنني أقول: هي المحبة جدَحت لي يدُها كأسَ النطق، فكان ما كان مما تراه منثورا بين يديك الآن.

مقدماتٌ ممهدات:
يحسُن بي – قبل الشروع في اللب المقصود بالذات- أن أعرف بالأثافي الثلاثة التي يتركب منها عنوان المقال – أي: (أصول البلاغة النبوية) - إذ معرفة المركب فرع عن معرفة مفرداته.
فلأبدأ بالثاني من هذه الأثافي، ولأُثن بالثالث، ولتكن (الأصول) ثالثتها.
• البلاغة والفصاحة:
اختلفت أقوال العلماء في تعريف هذين المصطلحين، وفي بيان الفرق بينهما) (.
والذي استقر عليه كلام البلاغيين، أن كلا منهما يقع صفة لمعنيين: أولهما الكلام، وثانيهما المتكلم. فتقول: شعر فصيح أو بليغ، وشاعر فصيح أو بليغ. وتختص الفصاحة بكونها صفة للمفرد فيقال: لفظة فصيحة ولا يقال لفظة بليغة.
وبعد هذا، فإن فصاحة المفرد، هي خلوصه من عيوب ثلاثة:
o تنافر الحروف: وهو وصف في الكلمة ينشأ عنه ثقلها في اللسان، وصعوبة النطق بها، كلفظة (الهعخع).
o الغرابة: بأن تكون الكلمة وحشية، غير ظاهرة الدلالة على المعنى، كلفظة جحْلَنجع، التي ذكرها أبو الهميسع في بعض رجَزه.
o مخالفة الوضع: بأن تكون الكلمة مخالفة لما ثبت عن الواضع) (، كقول القائل (الأجلل) يريد (الأجل) ففك الإدغام مخالفا للقياس الصرفي.
وزاد بعض البلاغيين، أن تخلص اللفظة من الكراهة في السمع، كلفظ (النقاخ) بمعنى الماء العذب. وفيه نظر، لأن في ذكر الغرابة غنية عن ذكر هذا العيب، لأن استكراه السمع للفظ إنما جاء من جهة وحشيته وغرابته.
وأما فصاحة الكلام، ففي براءته من عيوب ثلاثة أيضا – وذلك بعد خلوص مفرداته من العيوب السابق ذكرها -:
o تنافر الكلمات: وهو وصف في الكلمات مجتمعة، يوجب ثقلها على اللسان، وعسر النطق بها، كقول الشاعر: (في رفع عرش الشرع مثلك يشرع).
o ضعف التأليف: وهو أن يكون الكلام مخالفا في تركيبه المشهور من قواعد النحو، كالإضمار قبل ذكر المرجع لفظا ومعنى وحكما، كما في قول الشاعر:
(ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا من الناس، أبقى مجده الدهر مطعما)) (.
o التعقيد: وهو أن يكون الكلام غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد، لخلل واقع فيه. وهو نوعان: لفظي ومعنوي. فالأول كقول الشاعر:
وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه
والثاني كقول العباس بن الأحنف:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا وتسكب عيناي الدموع لتجمدا.
وقد اشترط بعض العلماء في فصاحة الكلام، خلوصه من كثرة التكرار وتتابع الإضافات. وليس الأمر على إطلاقه، فقد يوجد من ذلك في الكلام الفصيح، بل في أفصحه، كما في قوله تعالى: (ذكر رحمة ربك عبده زكريا)، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح: (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم). والمرجع في هذا إنما هو إلى ثقل اللفظ أو خفته على اللسان.

هذا ملخص ما ذكره البلاغيون في هذا المبحث.
لكن العمدة – عند التحقيق – إنما هي على لحظ تصرفات البلغاء في خطبهم ورسائلهم وقصائدهم، لا على هذه الضوابط الرياضية الصارمة؛ إذ الضوابط عصا الأعمى – فيما قيل) (.
وقد كان العرب الأقحاح في الأعصار المتقدمة يرسلون الكلام على سجيتهم، فيجيء منه كلام بليغ تارة، وأقل بلاغة تارة أخرى. وكان الذوق العربي سليما من عوارض الهجنة، وآثار العجمة. فكان الاعتماد عليه في تمييز البليغ الفصيح من غيره.
ثم جاء من بعدهم فقعّدوا وأصلوا، وكان في ذلك خير كثير. لكن بالغ المتأخرون في تتبع القواعد النظرية، والجمود على القوانين الجاهزة، وأهملوا التطبيق العملي، وإعمال الذوق اللساني البليغ.
فلتكن نظرتنا إذن – في هذا البحث – نابعة من هذا الأصل الذوقي، ولنكن من القواعد على ذُكر، نتطلبها عند الحاجة إليها، حين يخوننا ذوقنا الهائم في سباسب العُجمة.

• موضوع البحث:
موضوع الكلام هو الأحاديث القولية الصحيحة المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلا يدخل في مبحثنا حديث فعلي، ولا تقريري، ولا حديث في صفة الحبيب صلى الله عليه وسلم. والأمر في هذا أظهر من أن يحتاج إلى بيان.
ولا يدخل حديث في رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تردد أو شك. وهذا حال الأحاديث المعلولة التي تجاذبها حالا رفع ووقف) (.
ولا يدخل كذلك حديث غير صالح للاحتجاج، لكونه ضعيفا أو موضوعا أو نحوهما.
بل أزيد فأقول: لا ينبغي أن تدخل في بحثنا هذا الأحاديث المختلف في صحتها بين الحفاظ. لأن المقامَ مقامُ تأصيل وتقعيد، وهو لا يناسب مراتب الظنون، وإنما يحتاج إلى ثلج اليقين.
وهذا الاحتراز الثالث عظيم الخطر، سامق الشأن. لكن أغلب المتكلمين في هذا الباب معرضون عنه في التطبيق، مع كونهم مجمعين على صحته عند التنظير.
ولعل السبب في ذلك، تجاذب الاختصاصات العلمية. وذلك أن الباحثين في أبواب البلاغة عموما – والنبوية منها خصوصا – هم من أرباب اللغة والبيان، وليسوا من المحدثين والحفاظ.
ولذلك كثر عنذهم الاستدلال بالأحاديث التي لا تصلح للاستدلال، لفقدها ركن الثبوت، وهو الأساس الذي يبنى عليه الاحتجاج.

وقد يكون لهذا المأخذ – أي: ضرورة التأكد من ثبوت الأحاديث النبوية قبل الاستنباط منها - علاقة بإحجام جمع من العلماء عن الخوض في هذا الفن الرفيع.
ولما كان القرآن قطعي الثبوت، تكلموا في إعجازه البلاغي، فأطابوا وأطنبوا. بل ما خرج علم البلاغة إلا من رحم الإعجاز القرآني) (. أما الكلام على البلاغة في الحديث النبوي، فلم يرق إلى نفس المرتبة ولا إلى قريب منها.
على أن الفرق بين البلاغة النبوية والإعجاز القرآني ثابت ظاهر لا سبيل إلى طمسه. وهو ذاتُه الفرق بين المعجز وغير المعجز، والفاصل بين كلام الخالق وكلام المخلوق. وذلك أن كلام النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مهما ارتقى في درجات البلاغة، وتسامى إلى سماء الفصاحة، يبقى كلاما بشريا، تلفه مسحة الإنسانية، وتغلفه سرابيل الفناء البشري.
أما القرآن الكريم، فلا تجد فيه حين تتذوق ألفاظه، وتتدبر معانيه، شيئا من حالات النفس الإنسانية، أو أثرا من تقلباتها. ولذلك تقف أمامه عاجزا متحيرا، تشعر بذل المخلوق وضعفه أمام عظمة الخالق سبحانه.
ولذلك قال الجاحظ:
(.. لأن رجلاً من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة، طويلة أو قصيرة، لتبين له في نظامها ومخرجها، وفي لفظها وطبعها، أنه عاجز عن مثلها. ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها. وليس ذلك في الحرف والحرفين، والكلمة والكلمتين.
ألا ترى أن الناس قد كان يتهيأ في طبائعهم، ويجري على ألسنتهم أن يقول رجل منهم: الحمد لله، وإنا لله، وعلى الله توكلنا، وربنا الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وهذا كله في القرآن، غير أنه متفرق غير مجتمع؛ ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة، طويلة أو قصيرة، على نظم القرآن وطبعه، وتأليفه ومخرجه لما قدر عليه، ولو استعان بجميع قحطان ومعد بن عدنان)) (.
وفي معنى هذا قول الله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)) (.
وهذا لب الإعجاز البلاغي القرآني، الذي لا مطمع لأبلغ البلغاء في متابعته فضلا عن مجاراته. ومَن تجشم عناء معارضته من أهل الشقاق، ما زاد على أن فضح نفسه، وأتى بما جعله هزؤا أبد الدهر) (. أما كلام النبي صلى الله عليه وسلم فإنه - على بلوغه أعلى مراتب الفصاحة – فيه من آثار النفس الإنسانية ما يجعل البلغاء يطمعون في محاكاته، لما يلمسونه من الصلة البشرية بينهم وبينه.

وأمر آخر له تأثير في هذا التفريق بين القرآن الكريم والبلاغة النبوية، وهو مسألة الرواية بالمعنى في الحديث. وهي مسألة عظيمة الشأن جدا، جديرة بأن تخصص لها وقفة يسيرة، تجلو غوامضها.
وجماع الأمر فيها، أن الرواية بالمعنى ثابتة في طائفة من الأحاديث النبوية، حتى قال الثوري: (إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى)) (. لكن، لا يكون ذلك مانعا في الاستدلال بالحديث على الأصول العامة للبلاغة النبوية، وذلك للأوجه التالية:
الوجه الأول: أن الأصل عند المحدثين الاعتناء بضبط ألفاظ الحديث، ومنهم من كان يتشدد في ذلك – على ما هو مقرر. فالرواية بالمعنى أمر عارض لا ينبغي أن يسوى بالأصل الثابت. يؤكده
الوجه الثاني: وهو أن من قال من الحفاظ بجواز النقل بالمعنى، إنما قاله من باب التجويز العقلي، الذي لا يتنافى – في الغالب - مع وقوع عكسه. فالغالب على الظن أن الألفاظ الأصلية للنبي صلى الله عليه وسلم لم يطرأ عليها تبديل البتة، أو لم يساورها غير شيء من التبديل يسير.
الوجه الثالث: أن الرواية بالمعنى – على فرض كونها محل اتفاق - لا تعم كافة أصناف الحديث. وإنما الغالب وقوعها في الأحاديث الطويلة. أما الأحاديث القصار، أو حِكم النبي صلى الله عليه وسلم وأمثاله، ونحو ذلك، فإن الرواة يحافظون على نصها، ولا يعدلون عنه، لانعدام الحاجة إلى ذلك.
الوجه الرابع: أن التبديل الواقع في الحديث بسبب الرواية بالمعنى، إنما يكون في اللفظة الواحدة بعد اللفظة، أو في بعض دقائق التركيب، مع بقاء الهيكل العام للحديث، وهو – في الأعم الأغلب – موضع حكم الذوق بالبلاغة.
الوجه الخامس: أن للمحدثين - خاصة منهم أهل العلل - طرقا خاصة يجمعون بها روايات الحديث الواحد، فيظهر من جمعها إن وقع في نص الحديث تصرف من الرواة أم لا. ثم إن كان الحديث مما اختلفت فيه ألفاظ رواته، من غير سبيل للترجيح بينها، فالمتعينُ تنكبُه في مبحثنا هذا.
الوجه السادس: أن الشك المتطرق إلى بعض الأحاديث بسبب من احتمال الرواية بالمعنى، لا ينفي صحة الأصول العامة المأخوذة بطريق الاستفاضة والتواتر، من مجموع الأحاديث النبوية.
وفي الجملة، فإن هذه المسألة – وإن صح عدّها سببا في تأخر بحث البلاغة النبوية مقارنة ببلاغة القرآن الكريم - لا ينبغي أن تصرف الباحث في الموضوع عن مراده.

• خطوة نحو التأصيل:
ليس المراد في هذا البحث أن يجمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم في صعيد واحد، ويستخرج ما فيه من أفانين البلاغة، وضروب الفصاحة. فذاك مقصد لا مطمع في إدراك عشر معشاره. وقد قارب بعضَه جمع من شراح الحديث، فأجادوا وأحسنوا.
وإنما المراد وضع بعض الأصول العامة، والضوابط الإجمالية، التي تعين على فهم هذا الكلام البليغ، وتذوق حلاوته. وأعظِم به من مقصد جليل !
وقد مضى آنفا ذكر بعض ألوان التأصيل، ويأتي من ذلك فنون أخرى – بإذنه تعالى.

برهان البلاغة النبوية:
وإذ وصل بنا الكلام إلى هذا الموضع، فلرُب متكئ على أريكته، منجدل في طينة غفلته، يحك عينيه ليطرد عنهما سمادير الوسَن، ثم يقول: قد حدثتنا طويلا عن هذه البلاغة النبوية، حتى لكأنها عندك من المسلمات؛ أفَتُرانا نسلم برأيك لمحض قولك؟
وجوابي عن هذا – بعد أن أردد مع أبي الطيب قوله المأثور:
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
من أوجه تأتيك فيما يلي:
أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن نفسه بذلك، فقال (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي)) (.
قَالَ الزهري) (: (وَبَلَغَنِي أَنَّ جَوَامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الْأُمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُكْتَبُ فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْأَمْرَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ).
وهل هذه البراعة في الجمع، والإعجاز في الإيجاز، وقلة اللفظ مع كثرة المعاني، إلا قمة ما تكون عليه بلاغة الكلام؟
ولست أستدل في هذا المقام، ببعض الأحاديث التي يذكرها المتكلمون في هذا الباب، مع كونها لا تصح من جهة الإسناد.
ومن ذلك:
- ما جاء عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم دجن: (كيف ترون بواسقها؟). قالوا: ما أحسنها، وأشد تزاحمها. قال: (كيف ترون قواعدها؟). قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها. قال: (كيف ترون جونها؟). قالوا: ما أحسنه، وأشد سواده. قال: (كيف ترون رحاها استدارت؟). قالوا: نعم، ما أحسنها وأشد استدارتها. قال: (كيف ترون برقها؟، أخفوا، أو وميضا؟ أم يشق شقا؟). قالوا: يا رسول الله، بل يشق شقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحيا). فقال له رجل: يا رسول الله ما أفصحك، ما رأينا الذي هو أعرب منك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حق لي، وإنما أنزل القرآن علي بلسان عربي مبين؟)) (.
- ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد أني من قريش)) (.
- وما جاء من حديث أبي سعيد مرفوعا، قال: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، أنا أعرب العرب، ولدتني قريش، ونشأتُ في بني سعد بن بكر، فأنى يأتيني اللحنُ)) (.
- ومثله ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب بعض خطباء الوفود بكلام عذب فصيح، فقال له علي رضي الله عنه: (يا رسول الله نحن وأنت بنو أب واحد ونشأنا في بلد واحد، وإنك تكلم العرب بلسان ما يفهم أكثره. فقال: (إن الله عز وجل أدبني فأحسن تأديبي، ونشأت في بني سعد بن بكر)) (.
ومن هذه البابة أحاديث أخرى تركت ذكرها اختصارا.
والوجه الثاني: أن الصحابة الذين وصفوا منطقه عليه الصلاة والسلام، شهدوا له – وهم سادات الفصحاء، ومن معدن البلاغة والأدب – بتقدمه في هذا المضمار، بحيث لا يلحق غباره، ولا يدرك شأوُه.
من ذلك ما أخرجه النسائي والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسرد الكلام كسردكم هذا، كان كلامه فصلا يبينه يحفظه كل من سمعه).
وقد جاء بسند ضعيف من حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، طويل الفكرة، ليس له راحة، لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتح كلامه ويختمه بأشداقه. يتكلم بجوامع الكلم، فضل لا فضول ولا تقصير، دمث ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة، وإن دقت، لا يذم منها شيئا، لا يذم ذواقا ولا يمدحه)) (.

والوجه الثالث: أن أكابر البلغاء أذعنوا للفصاحة النبوية، وجعلوها تاجا على رأس العربية، يشع نور لآلئها على أرجاء الكلام العربي كله.
بل تخذوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم معينا ثرا يمتحون منه في مكاتباتهم ومخاطباتهم.
والأمر في شرح هذا وتفصيله يطول جدا.
فلأجتزئ بذكر كلام الأديب البليغ، مقدم أهل الصنعة، عمرو بن بحر الجاحظ في (البيان والتبيين)) (، حين يقول:
(وأنا ذاكرٌ بعد هذا فَنّاً آخرَ من كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو الكلام الذي قلّ عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجَلَّ عن الصَّنعة، ونُزِّه عن التكلف، وكان كما قال اللّه تبارك وتعالى: قل يا محمد: "وما أنا مِنَ المتَكلِّفين "، فكيف وقد عابَ التشديق، وجانب أصحاب التقعيب، واستعمل المبسوطَ في موضع البسط، والمقصورَ في موضع القصر، وهَجَر الغريبَ الوحشيَّ، ورغِبَ عن الهجين السُّوقيّ، فلم ينطِقْ إلا عن مِيراثِ حكمَةٍ، ولم يتكلَّم إلا بكلامٍ قد حُفَّ بالعصمة، وشُيِّد بالتأييد، ويُسِّرَ بالتوفيق. وهو الكلامُ الذي ألقَى اللّه عليه المحبّةَ، وغشَّاهُ بالقَبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبَيْن حُسنِ الإفهام، وقلّة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقِلّةِ حاجة السامع إلى معاوَدته. لم تسقط له كلمة، ولا زَلّت به قَدَم، ولا بارَتْ له حجَّة، ولم يَقُم له خَصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذُّ الخُطَبَ الطِّوال بالكلِم القِصار ولا يَلتمِس إسكاتَ الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتجُّ إلا بالصِّدق ولا يطلب الفَلْج إلا بالحق، ولا يستعين بالخِلابة، ولا يستعمل الموارَبة، ولا يهمِز ولا يَلْمِز، ولا يُبْطِيءُ ولا يَعْجَل، ولا يُسْهِب ولا يَحْصَر، ثم لم يَسْمع الناسُ بكلامٍ قَطّ أعمَّ نفعاً، ولا أقصَدَ لفظاً، ولا أعدلَ وزناً، ولا أجملَ مذهباً، ولا أكرَم مطلباً، ولا أحسنَ موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح معنًى، ولا أبين في فحوَى، من كلامه صلى الله عليه وسلم كثيراً)) (.
ثم قال:
(قال محمَّد بن سلام: قال يونس بن حبيب: (ما جاءنا عن أحدٍ من روائع الكلام ما جاءنا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم).
.. ولعلّ بعضَ من يتَّسِع في العلم، ولم يعرفْ مقاديرَ الكَلِم، يظُنّ أنّا قد تكلّفنا له من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد ما ليس عنده، ولا يبلُغه قدْرُه، كَلاَّ والذي حَرَّمَ التزيُّدَ على العلماء، وقبَّح التكلّف عند الحكماء، وبَهْرَجَ الكذَّابين عند الفقهاء، لا يظنّ هذا إلا من ضلَّ سعيُه)) (.
والوجه الرابع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقامه الله تعالى في موضع البيان لكتاب الله عز وجل، وذلك إنما يناسب أعلى درجات البلاغة. قال الحليمي رحمه الله في الكلام على بيان النبي صلى الله عليه وسلم وفصاحته: (ولو لم يكن على ذلك دلالة سوى أن الله نصبه منصب البيان لكتابه، فقال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) لكان كافيا، فإنه لو لم يكن آتاه البيان، ولم يرقه فيه إلى أعلى الدرجات، لما رضيه لتبيين كتابه، والكشف عن معاني خطابه)) (.
والوجه الخامس: أن العرب الخلص الذين عاش النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، وبث دعوته بين ظهرانيهم، لو علموا في فصاحته ما يعاب، أو ما يخالف أصول البيان والإعراب، لتعلقوا به، وبثوا ذلك في مجالسهم، واتخذوه سبة يتندرون بها في نواديهم؛ ولردوا عليه دعوته بسبب من ذلك، لأنهم من العرب الأقحاح الذين لا يستجيبون إلا لأفصحهم لسانا، وأظهرهم بيانا) (.
فلما لم يوجد من ذلك شيء، ولو أقل من القليل، مع توفر الداعي، وقوة المقتضي، علمنا أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب قاطبة، لا يخالج النفس في ذلك أدنى شك أو شبهة.
والوجه السادس: وهو الذي ينبغي أن يكون قبل الوجوه السابقة كلها، وينبغي أن يكون بعدها كذلك. وهي بينة إثبات أَكِل أمر الشهادة بها للذوق العربي السليم.
إن القارئ لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يجد من حلاوتها في نفسه، ما تصغر معه كل حلاوة أدركها طول عمره؛ ومِن نورها في قلبه، ما تنشرح له أرجاء صدره.
ومهما زدت من القراءة، وأكثرت من النظر في تلك الأحاديث، فإنك لن تجد في ذهنك ذرة من الملل أو السآمة، وإنما هو نور آخذ بحجزة نور، وضياء يتلوه ضياء.
ولن تجد - في غير القرآن والحديث - هذه الخاصية العجيبة في شيء من الكلام، كائنا من كان مبدعه.

سر البلاغة النبوية:
وإذ قد برهنا على بلوغ الكلام النبوي أعلى مراتب الفصاحة، فلنا أن نسأل عن سر هذه البلاغة النبوية؟
والحق، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتمعت فيه خلال كثيرة، ثقّفت لسانه، وزينت بيانه، وجعلته تاج الفصحاء، وسيد البلغاء.
• وأول هذه الخلال نسبه الكريم. فإن قبيلتَه قريشا كانوا أفصح العرب لسانا، وأرقهم لفظا، وأبعدهم عن تلك اللهجات الرديئة التي وصمت غيرهم من قبائل العرب) (. وقد نشأ النبي عليه الصلاة والسلام في بني سعد بن بكر) (، وهم من أكرم العرب وأفصحهم، مع كونهم أهل بداوة رقيقة الحواشي، ليس فيها من جلافة الأعراب ما يكدر صفوها.
وقد كانت حليمة السعدية من أوسطهم؛ والرضاع مؤثر في الطباع، كما قد قيل) (. ولم يختلط عليه الصلاة والسلام طول حياته الشريفة بقوم خارجين عن حدود رفعة البيان.
وإذ قد اجتمع له صلى الله عليه وسلم أفضل ما ينشأ في كنفه فصيح قط، فلا جرم أن اعتلى سماك البيان اللغوي، وأتى منه بأفضل ما يطيقه إنسان.
• وثانيها قلبه النقي التقي، المتجذر في الصفاء، والمتغلغل في الطهر. وهو قلب متصل بالله عز وجل، ينبض بأشرف المعاني، وأزكى الفكَر، فلا يزال يبعثها أرسالا بهية، إلى ذاك اللسان الفصيح، ليترجمها كلاما منمقا بديعا.
• وثالثها عقل ذكي متوقد، وذهن حاد متوهج، وبصيرة نفاذة إلى بواطن الأمور. فلا يمر على خاطره إلا معنى جليل قد امتلك ناصية الصحة، وترفع عن سفساف الأفكار.
• ورابعها لسان صقلته روائع البيان القرآني، فصار ذربا بأنصع الألفاظ، وأرشق التراكيب، وأحكم المعاني. وأعظِم بلسان يُدارس جبريل عليه السلام عجائب آيات التنزيل، ونفائس القرآن الكريم.
• والخامس تأييد إلهي محكم، يعصمه من العيوب التي لا يخلو من الوقوع فيها غيره من الفصحاء. فتجد كلامه متناسقا في سموه، متوازيا في عليائه، لا ينزل في لحظة ما عن أعالي رتب البيان. وهذا لا يكون إلا بمدد من الوحي.
ولذلك صح أن أزعم بثقة وثبات، أن البلاغة النبوية – رغم قصورها عن درجة الإعجاز القرآني - ليست متمحضة في الإنسانية، بل هي قبس من الوحي الإلهي.

أصول البلاغة النبوية:
ذكرت فيما سبق من الكلام، مباحث نافعة، قاربتُ فيها شيئا من التأصيل المجمل لفن البلاغة النبوية، وذلك بقدر ما تتسع له صفحات هذا المقال المختصر.
وأنا الآن ساردٌ لك، جُملا من الأصول والأركان، يقوم عليها صرح البلاغة النبوية. ولست أزعم لنفسي أنني محيط بتلك الأصول إحصاء وعَدا، ولا أنني مستوف بحث ما سأذكره منها. ولكن حسبي من الدلالة ما أبان أوائل الطرُق، ويكفيني من در القلادة ما أحاط بالعنق.
1- القصد والإيجاز:
ومعناه أن تجتمع المعاني الكثيرة المقصودة من الكلام في الألفاظ القليلة، التي تقل عن العدد المتعارف عليه بين الناس في عادات خطابهم.
وهو من معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت بجوامع الكلم)، وقد سبق إيراده.
وقد سلم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم – بهذا القصد والإيجاز – من الانتشار المفضي إلى العي والخطل، ومن الإطناب المؤدي بالسامع إلى السآمة والملل.
وإنك مهما قلّبت وجوه النظر في كلام البلغاء في تصاريف كلامهم، فلن تجد فيهم من يسلم من اللجإ إلى فنون من الإطناب والإطالة، وتشقيق الكلام، يستعين بها على بسط ما يبثه من المعنى.
ولن تجد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك شيئا. وإنما هو القصد الذي يحير الألباب، ويبهر العقول.

وتأمل قوله عليه الصلاة والسلام، على سبيل المثال: (إنما الأعمال بالنيات)) (. ستجد في هذه الكلمات الثلاثة المختصرة في هذا التركيب اللطيف، ألوانا من العلوم، وأصنافا من المعاني) (، يحار أهل الفهوم في استنباطها.
ومثله في الوجازة والجمع، أحاديث أخرى كثيرة، منها قوله عليه الصلاة والسلام:
- الدين النصيحة) (.
- الحلال بين، والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات.
- إنما الصبر عند الصدمة الأولى.
- المرء مع من أحب.
- الناس معادن.
- الظلم ظلمات يوم القيامة) (.
وغيرها من مثل هذه الأحاديث القصار التي تخرج مخرج الحكمة الشاردة، والمثل السائر، والقاعدة العامة الشاملة لما لا يحصى من المفردات، كثير جدا في دواوين السنة النبوية) (.

2- استيفاء المعنى:
وإذا كان الإيجاز مطلبا بلاغيا ساميا، فإن تقصده كثيرا ما يفضي بأرباب الأدب والفصاحة، إلى لون من النقص والاضطراب، يخرج به الكلام سقيما مخَدجا.
وأما في كلام سيد الفصحاء – صلى الله عليه وسلم – فإن الإيجاز ليس مخلا بالمعنى، وإنما هو ضرب من البراعة اللفظية، يكتمل رُواؤه باستيفاء المعنى المراد، حتى يخرج الكلام حسن التركيب والمظهر، تام المضمون والمخبر.
وهذا أصل عظيم جدا، هو لب البيان النبوي، المعصوم من التقصير في الهداية والإرشاد. ولولاه لما كانت السنة النبوية الشريفة بهذه المثابة في تقرير الشرائع، وتحرير القواعد، ووضع الأصول والضوابط.

ومن المثال على ذلك:
- قول النبي صلى الله عليه وسلم في تعريف الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (. وأنت لو شئت أن تبدل في هذه الكلمات المتناسقة، بزيادة أو نقص، لتكميل المعنى أو بسطه، لما تأتى لك ذلك إلا بحيث تخرج من حدود البيان العربي البليغ، إلى نوع من الثرثرة الممقوتة. فالمعنى – كما ترى – كامل منسجم، واللفظ ناصع منورق، مستو في فصاحته، لا عوج فيه ولا أمت.
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (: تأصيل عظيم لباب من أبواب الشرع جليل. ولست ترى فيه – على وجازته وحذف فضوله – نقصا في المعنى المقصود.
وفي الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمثلة على هذا الأصل، الشيء الكثير. وأنا مكتف – على رغبة مني في البسط جامحة – باستعاذته صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل، والجبن والهرم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات) (.
قال ابن القيم:
(فجمع هذا الحديث الشريف في استعاذته صلى الله عليه وسلم أصول الشر وفروعه ومباديه وغاياته وموارده ومصادره وهو مشتمل على ثمان خصال كل خصلتين منها قرينتان)) (.
وقس على هذا الدعاء غيره، فتدبره وأنعم النظر فيه، تر عجبا.

3- نصاعة الألفاظ:
ألفاظُ الحديث النبوي واضحة لكل أحد، خالصة من كل بشاعة، مبرأة من كل عيب وهجنة. اجتمع فيها ما أوردناه آنفا من شروط الفصاحة في المفرد، وزادت على ذلك، حتى استوت على عرش البيان، وتبوأت من البلاغة المحل الأسمى.
ولا يشكل على ما قررنا، بعض ما يورده أهل الغريب من الألفاظ الوحشية المستعصية على الفهم، وذلك لأن كثيرا من هذه الألفاظ لم تصح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما وردت في الأحاديث المرفوعة المروية في كتب السنة بالإسناد، فتتبعها أهل الغريب بالشرح البيان، ولم يتكلفوا عناء التثبت من صحتها، إذ لم يكن ذلك من مرامهم.
وقسم آخر من هذه الألفاظ الصعبة، تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بها، بسبب من اختلاف أحوال المخاطبين. فقد كان منهم أعراب موغلون في البداوة، وأصحاب منعمون في رقة الحضارة، وكان منهم ملوك وسوقة، وصغار وكبار، ونساء ورجال. فخاطب كل طائفة من هؤلاء بما يوافق حاله.
وهل البلاغة إلا مراعاة حال المخاطَب، لتحصل أعلى درجات الإفهام؟
لكنه – صلى الله عليه وسلم – لم يخرج قط عن انتقاء الحر من اللفظ، الذي يتقبله السمع، ويستسيغه الذوق.
وتأمل في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)) (.
ألست تجد وقع هذه الألفاظ وهي تدغدغ سمعك، وتلامس شغاف قلبك، مع إيغالها برفق في وضوح المعنى، وسلاسة التركيب؟.

4- موافقة مراد المخاطب:
ويسوقنا الكلام في الأصل السابق سوقا حثيثا، فيسلمنا إلى عرض أصل آخر عظيم الخطر، وهو أن الكلام النبوي كان يتأقلم مع أحوال المخاطبين به، مع الاحتفاظ بالأصول الثابتة الأخرى.
فهو إذ يخاطب ملكا من ملوك الأرض، تجده يقول: (سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)) (.
وحين يخاطب بعض أطفال المسلمين يقول: (يا أبا عمير ما فعل النغير)) (.
فتدبر ما في الحديث الأول من الفخامة والجزالة، حتى لكأن كلماته صواعق منزلة، تقرع رأس عظيم الروم؛ وما في ألفاظ الحديث الثاني من الرقة والحنان، حتى لكأنها تطرب فؤادك بعذوبتها.
هذا، وقد ذكر بعض الأفاضل في هذا الباب، كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لوائل بن حجر: (إلى الأقيال العباهلة، والأرواع المشابيب، الحديث)، وكتابه إلى همدان: (إن لكم فراعها ووهاطها وعزازها، الحديث)، وقوله لبني نهد: (اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها، الحديث)، ونحو ذلك.
وقد ضربت صفحا عن ذكر هذه الكتب والأحاديث، لأنها لا تصح من جهة الإسناد) (.

5- عدم التكلف:
وهذا الأصل متفرع عن مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم بكلامه البيان للنص القرآني، والإرشاد إلى خيري الدنيا والآخرة. وهذان الأمران لا يجتمعان مع التشدق والتفاصح.
ولذلك لا يوجد في كلامه عليه الصلاة والسلام شيء من الصناعة اللفظية المتكلفة، وإنما كان يتكلم عن روية وسلاسة طبع.
وحتى ما جاء في حديثه من السجع، فهو سجع بالغ السلاسة والعذوبة، ليس فيه خشونة الصناعة، بل ينسج على منوال الفواصل القرآنية، ويهتدي بضيائها، مع الفرق بين الكلامين كما سبق بيانه.

6- الخلوص من العيوب البلاغية:
كلامه عليه الصلاة والسلام مبرأ من الهنات البيانية التي لا يكاد يسلم منها متكلم. وإنك مهما استطعت، فلن تستطيع أن تجد في كلامه هجنة أو ضعفا؛ ومهما قدرت، فلن تقدر على أن تستخرج منه ركاكة أو إسفافا.
وقد ترفّع كلام النبي صلى الله عليه وسلم عن جفاء البداوة وغلظتها، وعن ضعف الحضارة وركاكتها. مع كونه أمسك من الأولى بأزمة جزالتها وفصاحتها، وغشي من الثانية بسرابيل رقتها وسجاحتها.
فجاء كلاما جزلا في رقة، ومتينا في عذوبة، وقويا في لطف وبهاء.

7- السبق إلى بعض التراكيب:
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم من البيان والفصاحة بهذا المحل الأسمى، الذي وصفته لك فيما سبق من الكلام، فليس بمستبعد أن يسبق أرباب البلاغة إلى تعبيرات لم يجارَ فيها، ولا تهيأ لغيره أن يحاكيها.
فمما تفرد بالسبق إليه:
- قوله صلى الله عليه وسلم: (حمي الوطيس)) (، أي: اشتدت الحرب.
- وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)) (.
- وقوله أيضا: (الحرب خدعة)) (.
وقد أفرد الخفاجي هذا الباب بالتأليف، على ما ذكر في شرح الشفا.
فهذا التفرد والسبق، مساهمة من النبي صلى الله عليه وسلم في الوضع اللغوي، بشقيه الإفرادي والتركيبي، وبلونيه الحقيقي والمجازي.
ومن أحق بذلك من سيد الفصحاء – بأبي هو وأمي – صلى الله عليه وسلم؟


وبعد، فهذا جهد المقل في وصف هذه البلاغة النبوية التي بذت فصحاء العرب!
أردت لهذه الكلمات أن تكون شذرات منثورة، توقظ الوسنان، وتحرك الغافل. وأسأل الله تعالى أن ييسر لي – فيما يستقبل من الأيام - بسط ما ورد في هذا المقال مختزلا، وتفصيل ما ذكرته فيه مجملا.
وحسبي الآن أن أكون قد طرقت بابا موصدا على أمثالي، ونفذت قليلا بذهن كليل، وفكر ضئيل، إلى تلك المعاني السامقة، والحقائق العالية.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
البشير عصام (أبو محمد)
الرباط، يوم الخامس والعشرين
من ربيع الأول من سنة 1428.