السبت، 30 أبريل 2011

دفاع عن الفصحى

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن الدعوة إلى العامية من أعظم معاول الهدم التي تتربص باللغة العربية. وقد نشأت هذه الدعوة منذ أكثر من قرن من الزمان، لكن تصدى لها أكابر العلماء والأدباء، فقبروها في مهدها، وجعلوا عامر ديارها يبابا، إلا قليلا مما لا تأثير له.
وازدادت هذه الدعوات إلى العامية ضعفا وركودا، حين انتشرت في الأمة بذور البعث الإسلامي، فانطلق الدعاة والعلماء منذ عقود يدعون إلى إنقاذ الفصحى في ضمن دعوتهم للإسلام، موقنين بأن العربية وعاء هذا الدين، وأن ضعفها في النفوس لن تكون نتيجته إلا انقطاعا عن الإسلام، وانحسارا لحسن التفقه في الدين.
واستمر الأمر على هذا النحو إلى أن ظهر في السنوات الأخيرة بعض الدعاة الذين اتخذوا من العامية (المصرية خصوصا) لغتهم الأولى التي لا يبغون عنها في خطابهم بديلا. وانتشر هذا الفعل في دروس الوعظ بالمساجد والفضائيات، بل في خطب الجمعة وبعض دروس العلم.
وكنا نحسب الأمر ''تقليعة'' جديدة، لن تعتم أن تنزوي في جحرها الذي خرجت منه، حين تمر عليها حقبة من الزمان، وتستنفذ أسباب وجودها.
وكنا نظن أن هذا كله لا يعدو أن يكون خاصا بمن يسمونهم (الدعاة الجدد)، الذين اصطنعوا لأنفسهم أسلوبا جديدا في الدعوة الدينية، يتنازلون فيه عن بعض الأسس والثوابت، رغبة في كسب ود الناس، وتمام التقرب من أصناف غير المتدينين.
فقلنا – على شيء من المضض غير قليل -:
لا بأس! ولنكن (ماكيافلليين) قليلا، فنقبل هذه الوسائل المرذولة، طلبا للغايات النبيلة!
لكن الخرق اتسع على الراقع، وانتقل الداء من (الدعاة الجدد) إلى (الدعاة القدامى)، بل إلى العلماء المتمكنين، المتصدرين لإفادة الناس وتعليمهم.
وانتقلت عدوى العامية من مجالس الدعوة العامة، إلى مجالس العلم الخاصة. بل صرنا نرى – ولولا أنني رأيت ذلك بعيني ما صدقته لشناعته – درسا في النحو العربي، يلقيه صاحبه بالعامية!
فقلنا: ما بقي للسكوت مجال، فإن هذه اللغة التي شرفها الله عز وجل، فجعلها لغة كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يده ولا من خلفه، أحب إلينا من فلان وعلان، كائنا من كان.
أتعجب كثيرا حين أسمع كثيرا من أحبابنا المصريين من العلماء والدعاة، يحرصون على إلقاء دروسهم بالعامية المصرية، ولعلهم يعولون كثيرا على أن غالبية العرب يفهمون اللهجة المصرية.
ووجه العجب أن المصريين هم حماة الفصحى قديما وحديثا. وما أزال كلما سئلت عن تعلم النحو، أرشد السائل إلى كتب ابن هشام الأنصاري، مع هوامش محيي الدين عبد الحميد. فإن طلب مني ثالثا، زدته الشيخ خالدًا الأزهري.
وهؤلاء المصريون الثلاثة – رحمهم الله وأجزل مثوبتهم - أُلين لهم علم النحو في العصور المتأخرة، كما ألين لداود الحديد. فما أعظم فضلهم على علوم العربية، وما أعظم تقصيرنا في حق كتبهم وتحقيقاتهم العلمية!
وما أزال أيضا إذا سئلت عن تعلم أساليب الكتابة العصرية، وعن أفضل كتب الأدب الحديث، أرشد السائل إلى كتب محمود شاكر والرافعي ومبارك والمازني والعقاد، وأضرابهم، من عظماء مصر الحديثة.
وإذا كانت الدعوة إلى العامية قد نشأت في أوائل القرن العشرين عند بعض المتغربين من أهل مصر، فإن أعظم الردود العلمية الرصينة على هذه الدعوة الرعناء، إنما ولدت وترعرعت واشتد عودها في مصر أيضا.
وإذا كانت مصر قلب الأمة النابض كما لا يخفى، فإن الناس في كل مكان من ربوع هذه الأمة تبع للمصريين في الخير وفي الشر.
ولذلك صرنا نرى في المغرب مثلا نابتة (لا تزال قليلة) تتشبه بالقوم في الكلام بالعامية. وصرنا نسمع أيضا بعض الدعاة من أهل الجزيرة العربية يرطنون بعاميتهم أيضا.
ولنتخيل ماذا سيحدث لهذه الأمة المتشرذمة، إذا صار العلماء والدعاة من أهل المغرب وشنقيط والجزائر ونجد والعراق والشام واليمن يلقون دروسهم، كل واحد بعاميته التي نشأ عليها في بلده. ما الذي سيبقى حينئذ من وحدة هذه الأمة؟
بل ماذا سيبقى من هذه اللغة، التي يتكالب عليها الهدامون من كل حدب وصوب، حتى إذا اطمأنت إلى من تحسبهم أصدقاءها وحماة بيضتها، إذا هم يقلبون لها ظهر المجن، ويطعنونها في ظهرها، طعنة نجلاء، لن تفيق منها إلا أن يتداركها الله برحمته.
قد يقول قائل: أنت تغلو في وصفك، ونحن إنما نريد التيسير على الناس، لتسهيل التواصل معهم.
وأنا أجيب: أخشى أن هذا الأمر تلبيس شيطاني، لا نصيب له من الصحة. وإلا فلتخبرني – وفقك الله لمرضاته - ما الفرق في معيار التيسير هذا بين أن يقول الداعية: (احنا عاوزين نشرح الحتة دي) وبين أن يقول (نحن نريد أن نشرح هذا الأمر)؟
وهل يوجد بين عوام الناس من لا يفهم الجملة الثانية، مع كونه يفهم الأولى؟
وأنا إنما أقول هذا تنزلا، وإلا فإن أغلب جمهور هؤلاء الدعاة ليسوا من الأميين، بل هم في غالب الأحيان متعلمون، ولو إلى حد أدنى يمكنهم من فهم الكلام العربي الميسر.
فإن قيل: القوم متعلمون، ولكنهم متغربون، تربوا في أحضان الثقافة الأمريكية، أو رضعوا لبان الفرنكفونية، فلا سبيل إلى مخاطبتهم بالعربية.
فالجواب: المتغربون لا يفهمون (أو يتعمدون ألا يفهموا) عامية ولا فصحى، وحق هؤلاء إن أردت التواصل معهم أن تلبس عباءة موليير، أو ترتدي سربال شكسبير لتخاطبهم بلسانهم، الذي لا يرفعون بغيره رأسا. وإنك – لو فعلت – لن تجدني منكرا ولا منتقدا.
ثم إن موضوع الدرس يكون في أحيان كثيرة غير مناسب للعوام، بل هو موجه للمثقفين عموما، أو إلى المنتسبين للتيار الإسلامي خصوصا، بل قد يكون موجها لنخبة مخصوصة منهم، وهو مع ذلك بالعامية!
فأين المصلحة في ذلك؟
يقولون: نحن بهذا نصلح الشباب، ونعالج انحرافاتهم.
نقول: لعل .. ولكنكم تنزلون إلى مستواهم بدلا من أن ترقوهم إلى مستواكم. وإذا استمر الأمر على هذا، فإنه يوشك أن تستووا معهم، فيستقر الجميع في درك الجهل، بدلا من أن ترتفعوا أجمعين إلى مراقي العلم.
فإن قلت: وهل هذا النزول ممكن، ولو افتراضا؟
فالجواب: نعم، فإن العربية إنما تكتسب بالممارسة، ويحافظ على رونقها بالممارسة أيضا. وإن من يترخص بالإكثار من الكلام بالعامية، سيأتي عليه زمان إذا أراد فيه أن يتكلم بالفصحى وجد اللحن يسابقه إلى تعبيراته، والخطأ يلاحقه في تراكيبه. فيضطر حينئذ إلى الرجوع إلى العامية ''المحبوبة'' حيث لا يلحنه أحد، وحيث هو مالك زمام كلامه، يقول ما يشاء، كما يشاء!
فإن قال قائل: إن العامية تتيح لنا يسرا في التعبير لا تتيحه الفصحى، التي تتميز بصرامة قواعدها، ووعورة مسالكها. ونحن محتاجون للانطلاق في التعبير، دون قيد تفرضه علينا هذه القواعد، ولا رهبة من أن تتسلط على رقابنا أسنّة التخطئة.
فإننا نقول: إذن فالعيب فيك لأنك تصدرت قبل أن تتأهل، ولا تأهل في العلم بدون علم العربية، باتفاق من يعتد بخلافه ووفاقه.
ولا تغتر – يا صاحبي - بما حصلته من معلومات، إن لم تكن قبل ذلك قد حصلت طرفا صالحا من علوم العربية، فإنها الأساس الذي يبنى عليه هيكل العلوم الشرعية كلها. وكل بناء على غير أساس يوشك أن ينهدم.
وهل أُتي أهل البدعة قديما إلا من عُجمتهم (وقديما قال أبو عمرو لعمرو: مِن العجمة أتيت، في قصة مشهورة، تراجع في مظانها)، وهل العجمة إلا ما أنت فيه؟ أم تحسب العجمة في النسب لا في اللسان؟
وقد كان الطفل في مدارسنا العتيقة يعَلّم القرآن ثم العربية. بل قال بعض العلماء بتعليم العربية قبل القرآن، لأنها أساس فهمه.
وهؤلاء علماؤنا في تاريخ هذه الأمة العظيم، لا يتخصصون في الحديث أو التوحيد أو الفقه، إلا بعد أن يكونوا قد تعلموا علوم العربية، وأتقنوا منها ما لا بد من إتقانه.
أما الآن، فصرت لا تستنكر أن ترى عالما أو داعية، يشتغل بالحديث أو يتصدر للفتوى، وهو لا يستطيع أن يعرب جملة، ولا يعرف المقياس الصرفي لكلمة. وإذا قرأ في كتاب من كتب التراث، في التفسير أو شرح الحديث أو الفقه، وجاء ذكر دقيقة من دقائق العربية – وما أكثر ذلك في كتب التراث -، لوى وجهه، وانصرف عنها، كأن المخاطب بذلك غيره، وكأنها من ترف العلم، وفضلات المعارف.
فإلى أين نحن صائرون، أيها الغيورون على العلم والدين؟
ثم إن هذا الباب الذي فتح في ميدان الخطابة والتدريس، سيفتح عما قريب في ميدان الكتابة. وهذه بوادره قد ظهرت في كتابات بعض طلبة العلم في بعض المنتديات العلمية المتخصصة. ولو أنني كتبت هذا المقال بلهجتي العامية التي نشأت عليها، فمن سيفهم عني ما أقوله، من أحبابي من أهل المشرق الإسلامي؟
فتخيل معي يا صاحبي ما سيؤول إليه أمرنا، إن لم نتدارك الأمر قريبا.
ونحن إذا استمررنا في هذه السبيل المظلمة، فسيأتي الزمان الذي يموت فيه الذوق العربي، وتستعجم التراكيب الفصيحة على الناس، ويفقد الطلبة – فضلا عمن دونهم – الملكة اللغوية، التي تربطهم بالقرآن والسنة، وتراث الأمة.
إني لأقرأ في بعض الأحيان قصة طريفة في بعض كتب الأدب القديم، فيشتد منها ضحكي. فأجرب أن أشارك فيها بعض إخواني، فإذا هو الوجوم والاستغراب، كأنني ألقيت عليهم مرثية أو خاطبتهم بموعظة!
ويحدث لي أن أقرأ أيضا تركيبا مزهرا للجاحظ، أو بيانا مشرقا للتوحيدي، أو لعبة لفظية راقية للقاضي الفاضل (هذا الذي هدمنا أدبه بدعوى الإفراط في الصنعة اللفظية، ثم لم نأت بما يعوضه. بل صرنا: لا لفظ ولا معنى!)، فأكاد أطير من مقعدي من شدة الطرب، وأبحث – قريبا مني - عمن يشاركني سعادتي، من الطلبة الملتزمين بالشرع، والمنتسبين إلى طلب العلم، فألتاع من حر الغربة؛ مع أنني في عرف أهل العربية متطفل أعجمي، لكن كم من أعشى يكون غريبا في مملكة العميان!
إن الذوق العربي يندثر .. وإن الملكة اللغوية تنحسر .. وإن حمأة العامية تزحف .. فالحقوا هذه اللغة، بل الحقوا هذا الدين، فإنهما مرتبطان لا ينفكان، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

السبت، 23 أبريل 2011

في الشام ..


في الشام مجد قد مضى = ولنا به مجدٌ يلوحُ
نطقتْ بهذا مِن دما = ء الفخر ألسنةٌ تصيحُ
وكلامُها في مسمع الـ = تاريخِ مؤتلقٌ فصيحُ
في الشام أحزانٌ تمضُّ القلب .. أشلاءٌ .. قروحُ
في الشام آمال بأسرارٍ من الماضي تبوحُ
أمل من الآلام منبته، وبذرته الجروح
لكنه رغم المآسي راسخٌ، عال، فسيحُ
اليوم تبعث ميسلون، فعطرها أرج يفوح
اليوم نعتق شعبنا = ويضيئنا فجرٌ صبيحُ

الجمعة، 1 أبريل 2011

الحركات الشعبية العربية بين التنظير المتأخر والتطبيق السريع

بسم الله الرحمن الرحيم
قامت منذ أسابيع في أغلب البلاد العربية مظاهرات سلمية، وانتفاضات شعبية، وثورات مسلحة، بشكل مفاجئ، لم يستطع أحد من المحللين أن يتوقع حدوثه.
وقد أكدت هذه الأحداث المفاجئة أن التوقع في مجالات السياسة - كما يمارسه بعض من يعرفون بالمحللين والخبراء - لا يعدو في غالب الأمر أن يكون ضربا من الكهانة، أو نوعا من التخليط المتعمد لأكل أموال الإعلاميين بالباطل.
الفكر المتأخر:
ولكن هذه الأحداث السريعة المتلاحقة، أبرزت شيئا آخر أعظم خطرا، وقد تكون له عواقب وخيمة إن لم يتدارك قبل أن يفوت الأوان، وهو أن هذه الحركة الشعبية العارمة لا يواكبها جهد فكري شامل، يضع لها الإطار العام الذي تتحرك داخله، والوسائل التي تستعملها، والغايات التي تسعى إليها.
وقد يكون هذا مفهوما لأن الجهد الفكري يأخذ وقتا طويلا، ويطبعه من التردد والاختلاف، ما يجعل الحركة العملية غير مستعدة لانتظاره، حتى يحسم أمره في الخيارات المتاحة أمامه. أو كما يقول ديكارت: (أفعال الحياة غالبا ما لا تحتمل الإرجاء)) (.
نعم قد يكون مفهوما، ولكنه على كل حال ليس بالظاهرة الصحية، التي لا تستدعي النقد.
لست أنفي أن توجد فتاوى أو مقالات أو محاضرات متناثرة، تتعرض لبعض المباحث الجزئية بتحليل مختصر، يقارب المشكلات الآنية، دون الغوص وراء حلول الإشكالات الكبرى.
لكنها فوق ما يطبعها من الجزئية والتسطيح المعرفي، تعاني من تشرذم فكري خانق، بسبب التنوع الهائل بين بواعثها الدينية أو الحضارية أو المذهبية.
فيمكننا أن نقول: إن هذه المجهودات المتلعثمة تؤخر هلاك الأمة، وتسكن أوجاعها الحاضرة، ولكنها لا تغني عن الدواء الشافي بإذن الله.
إن خطورة هذا التأخر الفكري تكمن في أن المجال صار مفتوحا الآن أمام الشعوب لتفكر وتعمل من تلقاء نفسها.
والشعب مصطلح فلسفي عائم، غير منفك عن الحمولة السياسية. لكن الأكيد أن حركته – إن لم تكن منضبطة بحواجز فكرية واضحة المعالم – لا يمكن التكهن بمآلاتها، فقد تكون كالنهر القوي الذي لا تخرجه قوته عن مساره الطبيعي، وقد تصبح كالسيل الجارف الذي يأتي في طريقه على الأخضر واليابس.
والشعوب تستطيع – بسهولة فائقة – أن تعبر عن آلامها وآمالها، وتستطيع أن تُشحن - من ذاتها - في معارك مرحلية في مواجهة أعداء، أو لتحقيق مكاسب. ولكنها – بدون تردد - لا تستطيع لوحدها أن تصنع الإطار الحضاري العام الذي يحدد مسؤولياتها، ويوضح حقوقها، ويجعل حركتها عملَ بِناءٍ على أنقاض ما يهدم في طريقها، لا عمل هدم وحسب.
مخاطر في الطريق:
وإذا كان أهل الفكر غائبين أو مغيبين عن هذه التحديات الكبرى التي تخوض الشعوب غمارها، وإذا كانت الشعوب لا تستطيع أن تقوم بواجب أهل الفكر، فما الذي يمكن أن يقع في القريب العاجل؟
أخشى ما أخشاه أن يضطر مفكرونا في خضم هذه الأحداث المتسارعة، ورغبة منهم في لحاق الركب المتفلت منهم في أقرب وقت ممكن، إلى اللجوء إلى الأسهل والأقل كلفة، وهو استنساخ التجارب الغربية السابقة، دون مراعاة الفوارق الجوهرية التي تميز حضارتنا بثوابتها التي لا تقبل النقاش، عن حضارة الغرب التي تضع أغلب المبادئ في خانة المتغيرات.
وهذا الاستنساخ الأعمى لن يؤدي إلا إلى نتيجة واحدة، هي أزمة تبعية للغرب، تخنق أنفاس التحرر من جديد، وتكبت – على المدى البعيد – آمال الانطلاق الوليدة.
وسيكون أعظم مظاهر هذه الأزمة، تكرار بعض المشاهد السابقة، التي ألفناها في أمتنا منذ عقود، وطيلة مرحلة ما بعد الاستقلال، فيكون التغيير في الأسماء دون المسميات.
ومن هذه المشاهد تأجج نار التدافع – مرة أخرى - بين طائفتين وفكرتين:
- طائفة تنادي بالتبعية المطلقة العمياء للنموذج الغربي، لا لشيء إلا لأنها لا تعرف نموذجا غيره، بل لا تتصور إمكان وجود نموذج آخر. وهي فوق ذلك، لا تمتلك العدة المعرفية اللازمة للإبداع المنافي للتقليد.
- وطائفة أخرى ترفض هذه التبعية، لأنها اكتوت بنارها منذ عقود طويلة. وهي طائفة تريد تغيير حالة الجمود والقهر، لكن مع استلهام الموروث الديني والحضاري للأمة. على أنها لم تمارس - لحد الآن – جهدا تنظيريا كافيا، كذاك الذي مارسه من يسمون (فلاسفة التنوير) خلال القرن الثامن عشر، وكان زادا معرفيا جاهزا لتأطير الثورة الفرنسية.

دعوة للاستدراك:
وبعد هذا الرصد للواقع، ولما يمكن أن يتمخض عنه من المخاطر، هل فات الأوان لتدارك ما فات؟ وهل يمكن تلافي هذا الخطر المحدق الذي ألمحتُ إلى بعض معالمه في الفقرة السابقة؟
يمكنني أن أجيب - دون كبير تردد – أنْ لا. لم يفت الأوان، لأن هذه الحركات الشعبية تتسارع في إسقاط بعض الأنظمة المهترئة، ولكنها ستحتاج إلى وقت طويل لإقامة أنظمة بديلة، قادرة على تحقيق المصالح الدينية والدنيوية لشعوبنا.
لقد مر على الثورة الفرنسية مدة طويلة قبل أن تستقر حركتها في دولة آمنة تحقق المبادئ الأولى التي قامت الثورة من أجلها. ولو وقفت هذه الثورة عند احتلال سجن الباستيل، أو حتى عند إعدام لويس السادس عشر، لما كانت شيئا مذكورا. وإنما كانت قوتها كامنة في مقارعة مستمرة بين قوى التحرر وجحافل الماضي المظلم، لنحو قرن من الزمان، حدثت خلاله تراكمات معرفية، وتجارب عملية كثيرة، مكنت من قيام أصول الفكر الغربي المعاصر.
وأنا حين أعقد هذه المقارنة، لست أعتبر الثورة الفرنسية قدوة لنا، ولا نموذجا ينبغي احتذاؤه، فإن الفروق بيننا وبينهم كبيرة جدا، وتمس الجوهر الحضاري. ولكنني أقدم هذا المثال، لأبين أن ما حُقق الآن في بعض الدول العربية في بضعة أسابيع لا يعدو أن يكون تغييرا جزئيا، ذهب فيه نظام فاسد، بانتظار نظام أقل فسادا. أما التغيير الشامل الذي يضمن بآلياته المستقرة، عدم تكرار هذه النماذج السيئة من الأنظمة القهرية، فهو تغيير يحتاج إلى سنوات من المخاض. ولا يمكن أن يتحقق في بضعة أشهر إلا عند الحالمين.
وإذا أضفنا إلى هذا المعطى شيئا جوهريا آخر، وهو أن هذا التغيير ينبغي أن ينطلق من دين يقف كثير من قادة الغرب في وجه انطلاقه، وتحذر ''اللوبيات'' النافذة في الإعلام من تحرره من قمقمه، تبيّن لك صعوبة ما نحن مقبلون عليه فيما يستقبل من الأيام.
ويتأكد هذا أكثر، بكوننا نعيش في عصر انفتاح معرفي وإعلامي لا مثيل له. فلا يمكننا اليوم أن نغلق علينا أبوابنا، لنناقش حاضرنا ومستقبلنا، دون أن يكون معنا في هذا النقاش أجنبي – أو ممثل للأجنبي من بني جلدتنا. وهذا الواقع بعيد جدا عن واقع الثورة الفرنسية، حين كانت المعلومة تنتقل داخل البلد الواحد في أيام أو أسابيع، وبين البلدان المتباعدة في أشهر طويلة.
نعم واقعنا مختلف كثيرا عن واقع الثورة الفرنسية، ولكن الثابت أن الثورات التغييرية الكبرى لا بد أن تستمر وقتا طويلا. وهذا الوقت ينبغي أن يستغل في تدارك ما فات من التنظير المعرفي اللازم لكل حركة بشرية.

مجالات خصبة للبحث:
إن أمام أهل الفكر في الأمة إشكالات كثيرة، وضعتها هذه الحركات الشعبية المتسارعة. ولا يمكنني أن أحيط بعناوينها في هذا المقال. ولكن يمكن القول اختصارا بأن هذه الإشكالات تدور على ثلاثة محاور أساسية، ترتبط فيما بينها ارتباطا وثيقا للغاية:
أولها: تشخيص المرض الذي تعاني منه الأمة، وتوصيف حقيقة الأسباب التي جعلت ركبنا يتأخر عن اللحوق بالأمم الأخرى، مع أن لدينا من الإمكانات المادية والمعنوية ما يؤهلنا للمنافسة على مراتب الريادة في الكون.
أهي مشكلة معرفية شاملة؟ أهي قضية إزاحة الشريعة عن حياة الأفراد والجماعات؟ أهو الانفصام بين التصورات العقدية الموروثة والتحركات العملية المفروضة؟ أهو العامل الخارجي المتمثل في الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية للغرب؟ أهي الأنظمة الاستبدادية الفاسدة؟ أهو رضا الشعوب بأنظمتها الفاسدة لعقود طويلة؟ أهو غير ذلك كله مما لا سبيل إلى إحصائه، أم هو مزيج من ذلك كله، مع نِسَب في التأثير متفاوتة، تحتاج إلى ضبط وبيان؟
والثاني: توصيف الطريقة المثلى للتغيير، من جهة الصلاح والجدوى. أي ما يجوز شرعا من الطرق المقترحة وما لا يجوز، وما يثمر منها في الواقع وما لا يثمر.
وقد بينت الأحداث أن الطريقة التي تنجح في بعض البلدان، لا تؤتي أكلها في بلدان أخرى؛ وأن الثورة السلمية قد تتحول إلى ثورة عنيفة) (؛ وأن الحركة الداخلية قد تستنجد بالدعم الخارجي اضطرارا، إلى غير ذلك مما لا يحصى من الإشكالات التي تتعامل معها الشعوب الآن بمنطق الارتجال، والقرار المرحلي.
والثالث: تحديد الغايات الاستراتيجية التي تريدها الأمة بعد التغيير، لكي تتحد الشعارات، وتأتلف القلوب على مبادئ واضحة المعالم.
وتدخل في هذا المحور أصول عظمى، وقضايا مصيرية، ينبغي الحسم فيها، كقضية الديمقراطية بآلياتها العملية، وحمولتها النظرية؛ وقضية الدولة الدينية والدولة المدنية؛ وقضية تحكيم الشريعة بين الفورية والتدرج؛ وقضية المواطنة والأقليات الدينية؛ وقضايا الحريات وحقوق الإنسان؛ وغير ذلك.

إن المهمة شاقة وطويلة الأمد، ولكنها ضرورة من ضرورات الحياة الأساسية لهذه الأمة، التي تغيب عن وعيها دهورا، ثم تستيقظ في يوم من الأيام، وهي تحمل ما فيه الخلاص والرحمة للعالمين.